حكمة الأجداد.. وإنقاذ الأرض الزراعية من الاختفاء

حكمة الأجداد.. وإنقاذ الأرض الزراعية من الاختفاء

نعلم جميعا أن تاريخ الدولة المصرية، قد بدأ منذ حوالى خمسة آلاف سنة، وخلال هذه الفترة مثل نهر النيل العظيم الطريق الأوحد لنقل الناس والبضائع والجيش. وأهلت مسيرة تيار مياه النيل الترحال شمالا باستخدام القوارب. وفى الوقت نفسه أهل اتجاه الرياح الشمالية السفر إلى الجنوب بالقوارب الشراعية. لذلك ومنذ أن تمت وحدة الصعيد  والوجه البحرى منذ أكثر من ٥٠٠٠ سنة فقد اتصف أهل مصر بالمعيشة على جانبى النيل وعدم المغامرة فى صحاريها الشاسعة الا فى الحاجة القصوى على سبيل المثال؛ لرد الهجوم الغاشم من الشمال الشرقى أو الغرب.

هكذا أنبتت التربة الخصبة لوادى النيل والدلتا الفائض من الطعام على مر التاريخ حتى انشاء السد العالى لأن النيل رسب سنويا ما يغذى النبات فى صورة طمى.

أدى هذا الفائض الى حسن توزيع القوى العاملة وذلك فى مجالات الإنتاج والشحن والتوزيع. هذا بدوره سهل نمو المجتمعات الحضرية وسمح لقادتها بإدارة شئون البلاد بواسطة الحكومة المركزية. وأهل هذا التنظيم الاجتماعى السليم للقدماء المصريين السبيل لغرس جذور حضارتهم الفريدة. واستدام ذلك على حوالى سبعة فى المئة من مساحة مصر الإجمالية والتى تقع معظمها على طول وادى النيل والدلتا.

 

وللأسف الشديد نتج عن السياسات الحكومية فى مصر خلال نصف القرن الماضى ركود الوضع الاقتصادى لغالبية أهلها. لم يتم إنجاز إلا القليل جدا لإتاحة فرص عمل حقيقية لمعظم افراد الشعب وخاصة أكثرهم طاقة وهم الشباب. ونتج ذلك عن التركيز على خصخصة الصناعات التى تمتلكها الحكومة وإفادة عدد قليل من الأفراد المرتبطين بالساسة على حساب عامة الشعب. أسفرت هذه الظروف القاسية والصعبة عن ازدياد الفقراء والطبقة الوسطى.

لابد من تشجيع الفلاح المصرى على العودة لفطرته السليمة

واليوم قد تخطى عدد سكان مصر حاليا الـ 100 مليون نسمة، و بحلول عام   2060 ربما سيصل العدد إلى 200 مليون نسمة. وأدركت القيادة السياسية فى مصر أنه لم يعد يكفى وقف البناء فوق الاراضى الصالحة للزراعة بل نحتاج الى ازدياد المساحة التى نعيش فيها للزراعة والبناء معا. وقد كان هذا هو قصد مشروع ممر التنمية فى الاساس. 

لذلك لابد من التوسع فى مساحة معيشة الناس على ضفتى النيل وأى مكان آخر يسمح بإنتاج الغذاء مستقبلا. وهو الأمر الذى أدركه الرئيس عبد الفتاح السيسى حين قال إن مصر يجب أن تنتج غذاءها مهما كانت تكلفته ودعوته بإلحاح إلى التوقف عن البناء على الأراضى الزراعية، وجذب المواطنين للأحوزة العمرانية التى تخصّصها الدولة، وليس هناك احسن من متابعة التغيرات التى تتم على أيدى الناس فى كل بقاع مصر. وليس هناك وسيلة أقدر على دراسة التوسع الزراعى إلا واسطة الأقمار الصناعية والتى تحدد ذلك بدقة وبعيدا عن الغش او المغالاة.

ويقتصر انتشار سكان مصر حاليا على حوالى سبعة فى المئة من مساحتها الإجمالية، معظمها على طول وادى النيل والدلتا.  لذا يتطلب الاستخدام السليم لثرواتها التوسع فى «مساحة العيش». وهنا يلزم الفهم لنتائج التوسع الزراعى من جهة (أى إنتاج الغذاء) والتوسع   العمرانى (أى البنيان) من جهة أخرى.

التغيير الذى توضحه الأقمار الصناعية

بدأ تصوير الأرض بشكل ممنهج من الفضاء من خلال أقمار لاندسات منذ عام 1972، واستغرق الأمر بضع سنوات لاستكمال تغطية مساحة مصر. عندما تم الانتهاء من تغطية التصوير الفضائى لمصر وقمت بتجميع 65 صورة ونشرها فى كتاب عنوانه «مصر كما تراها أقمار لاندسات». اما اليوم فيتم تصوير الأرض بأنواع متقدمة من نفس فصيلة هذه الأقمار.

عمل معى فى مركز أبحاث الفضاء بجامعة بوسطن الأستاذ الدكتور كيرتس وودكوك. وفى عام 1996 قام بدعم الباحثة (مارى لينى) لدراسة التغيرات فى غرب دلتا النيل نتيجة لـ«تملح التربة». واتضح أن هذا «التملح» يحدث كنتيجة لأن مياه الرى التى تصل الى المنطقة ذاخرة بالاملاح وتم تحسين الوضع بوزارة الزراعة فى وقت الدكتور يوسف والى. ولأن هذا البحث نتج عنه الخير فاستمر اهتمام الزميل كيرتس واستمر فى دراسة وادى النيل والدلتا ومنذ عامين اشرك الباحثة (كيلسى براتلي) للقيام بدراسة وادى النيل ودلتاه فى بحث علمى شديد الأهمية. وفى هذا المقال اشرح أهم ما اضافته هذه الدراسة المستفيضة ليعم الخير منها فى جميع بلاد مصر على طول وادى النيل.

تشرح هذه الدراسة فى صور واضحة للعيان التغييرات التى تمت إما نتيجة لازدياد الرقعة الزراعية بجهد الفلاح المصرى الواعى أو طمر جزء من الأراضى الخصبة (التى غطاها النيل بالتربة الصالحة للزراعة أثناء الفيضان السنوى عبر ملايين السنين) ببناء القرى والمدن. وأسوأ هذه الحالات فى حقيقة الأمر هى المنطقة التى تحيط بالقاهرة كما يوضح الشكل ١.  تبين تلك الصورة التعدى غير المسبوق على تربة زراعية رسبها نهر النيل على مدى حوالى ستة ملايين سنة!

أما ازدياد الأرض المزروعة فى أرض صحراوية فأعظم مثل هنا هو المساحة الشاسعة بين أراضى الدلتا الخصبة وطريق «مصر ـ اسكندرية» الصحراوى (كما يوضح شكل٢).  فالمسافر على هذا الطريق يرى ـ دون أدنى شك ـ أن هذه المساحة يمكن أن تتحلى بالخضرة لإنتاج الغذاء إذا ما أحسن التعامل معها ودعمها بما يمكن من  المواد العضوية؛ لأن تربتها صحراوية لا تؤهل لإنتاج الغذاء دون إضافات.

كذلك أثبتت دراسة الصور الفضائية مقارنة بالصور الحديثة بالوضع منذ ثلاثين عاما، أن عمل الفلاح المصرى أضاف إلى مساحة الأرض المنتجة للغذاء مساحات شاسعة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل أولا على أن الفلاح المصرى يفهم طبيعة الأرض، وكذلك يعمل دائما على ازدياد الإنتاج الزراعي؛ لسد حاجة الانسان والحيوان على حد سواء. وذلك لأن الحيوان بالنسبة للفلاح مصدر رزق وطاقة عمل فى نفس الوقت، وكانت هذه احدى ركائز إنتاج الغذاء فى مصر منذ عهد القدماء، كما تشرحه اللوحات الفنية فى مصر القديمة.

وتوضح مقارنة الصور الفضائية الحديثة مع قريناتها منذ ثلاثين عاما، تغيرات شتى على طول وادى النيل خاصة غرب بنى سويف، وفى منخفض الفيوم، وغرب المنيا واسيوط وغرب المنطقة من ادفو جنوبا حتى الأقصر شمالا. وغرب منطقة ادفو على وجه الخصوص ترى توسع الأرض الزراعية بشكل كبير أساسا لأنها تحد منطقة غرب كوم امبو التى حاولت دعمها للتوسع الزراعى منذ وقت طويل مع أحد زملائى فى البحث العلمى (وهو الاستاذ الدكتور أحمد جابر أستاذ الجيولوجيا فى جامعة قناة السويس).

الحالة الوحيدة التى توضح  تمدد الزراعة مؤخرا فى شرق وادى النيل هى « وادى كوم امبو». فقد امتدت الزراعة شرقا فى وادى كوم امبو الذى يمتد شرق النيل، ويغطى مساحة شاسعة من الأرض المستوية. وهنا ايضا فطن الفلاح المصرى الواعى  إلى أن الوادى تغطيه تربة صالحة للزراعة. كذلك فطن إلى أن الوادى يستقبل أمطارا فى كل شتاء، ولابد أن يحتوى على مياه جوفية والتى تم ضخها من أعماق قليلة.

شرق العوينات

بدأت رحلاتى الحقلية فى الصحراء الغربية مع زملاء جيولوجيين منذ عام 1974، خاصة من جامعة عين شمس والمساحة الجيولوجية المصرية. طوال تلك الرحلات فى الصحراء، وجدنا بقايا تدل على وجود شبه دائم للانسان القديم. أصغر تلك البقايا سنا يعود تاريخها الى ما بين 6000 ـ 11000 سنة مضت. مما يدل على أن غزو الصحراء الذى نشهده الآن هو عودة للأصل الذى فعله الأجداد وليس سيرا إلى المجهول،  وشملت تلك البقايا سكاكين يدوية على أشكال وأحجام مختلفة صنعها الإنسان القديم، بالإضافة الى الكثير من قشر بيض النعام.

فى الطرف الجنوبى من الصحراء الغربية، يقع  أكبر تجمع لبقايا قشر بيض النعام المتناثر فى مساحات شاسعة. وتمثل هذه المنطقة امتدادا لغطاء الرمال المسطح فى الجزء الشمالى من منطقة شمال «واحة سليمة» وهذه المنطقة مستديرة تقريبا وتقع على الحدود مناصفة بين مصر والسودان. وقد أطلق عليها هذا الاسم الذى يرجع لـ«واحة سليمة» القديمة على حدود المنطقة الشرقية فى السودان. لان المنطقة المستوية دائرية، واقترحنا انها كانت بحيرة فى الماضي، حيث عاش البشر وحيواناتهم حول شواطئها. ولأنها منطقة شبه دائرية منخفضة ربما كانت ممتلئة بالماء فى الماضي.ومن هنا فإن بعضأ من هذه المياه لا بد انه كون مخزونأ تحت سطح الأرض.

محاولاتى منذ عام 1982 مع الدكتور يوسف والي، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، أدت إلى الموافقة على حفر بئرين فى عام 1995 للنظر فى إمكانات المياه الجوفية هناك،  وظهرت المياه الجوفية على عمق 100 وخرجت المياه باردة، ونظيفة، وأقل أملاحا من مياه النيل، واستغرق الأمر خمس سنوات أخرى لحفر المزيد من الآبار، وتشجيع المستثمرين المصريين لاستئجار مساحات 10000 فدان للزراعة. نرى اليوم هناك أكثر من 1000 بئر( الصورة الاخيرة هنا)  تستخدم المياه الجوفية هنا لزراعة المحاصيل الأساسية مثل القمح والحمص والفول، بالإضافة إلى الخضراوات والمواد الغذائية لمجتمع المهندسين والمزارعين والعمال. واليوم تزين الخضرة هذا الجزء الشديد الجفاف من صحارى مصر. وهذا يشير بوضوح إلى الحاجة الى المزيد من الدراسة والتحليل للكشف عن موارد اضافية للمياه الجوفية لاستخدامها فى المستقبل.

ختاما، يقودنا ما سلف إلى ثلاث نقاط أولاها أنه لابد من وقف تمدد العمران ـ الحكومى قبل العام ـ على الأراضى الصالحة للزراعة على جانبى نهر النيل وخلال الدلتا» التصريح بالبناء فوق المبنى» او فى الأراضى الحجرية التى لا تصلح للزراعة. وقد قرأت تصريحا لرئيس الوزراء قبل شهور يستثنى المبانى التعليمية فى الريف  من شروط الارتفاعات، وهنا أشد على يده أن يعمم الأمر على كل المبانى فى الريف ـ بما لا يتعارض مع مصلحة الأمن القومى ـ لتشجيع التوسع الرأسى والحد من التغلغل الأفقى.

وثانيها، تشجيع الفلاح المصرى على العودة لفطرته السليمة بإضافة مساحات شاسعة من الأراضى المستوية للزراعة مع ريها بالأساليب الحديثة إما بمياه النيل او المياه الجوفية المحلية فيضيف بذلك لإنتاج الغذاء للإنسان والحيوان، وثالثها، يدعم كل ما سبق حتمية إقامة محاور عرضية غرب النيل، كما حلمت منذ سنوات فى مقترح ممر التنمية لأنها المنطقة المستوية التى أمكن التوسع فيها، خاصة أن المساحة الكلية بين مسار النيل والخط المقترح لممر التنمية تساوى مرة منصف المساحة المأهولة حاليا بوادى النيل والدلتا.