فى غياب الرقابة على الأسواق العشوائية.. سموم للبيع على الرصيف

فى غياب الرقابة على الأسواق العشوائية.. سموم للبيع على الرصيف

بعد أن انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، صورة السيدة التى تفترش أمامها مجموعة كبيرة من ادوية منتهية الصلاحية فى سوق الجمعة بإمبابة، والتى تمتد من نفق المنيرة إلى شارع الوحدة،كان هذا المشهد جديدا بالنسبة لما يعرفه الجميع عن أسواق الخميس والجمعة والثلاثاء المنتشرة فى العديد من الأحياء الشعبية مثل سوق الخميس بالمطرية والجمعة بالسادس من أكتوبر، وسوق السيدة عائشة وامبابة التى ينتشر فيها باعة المواد الغذائية رخيصة السعر ومجهولة المصدر فى اغلب الأحيان، والفاسدة فى بعض الأحيان .. ورغم ذلك يعود الباعة وقد تخلصوا من معظم بضائعهم أو أغلبها ..وقد حاولنا رصد الأسواق الأسبوعية وكان النموذج الذى حاولنا استعراضه هو سوق إمبابة ..ورغم أن الجولة فيه لا تعبر عن جميع الأسواق المماثلة لكنها تنقل لنا صورة واضحة عما يحدث فيها ..وهو ما قمنا بعرضه على خبراء التغذية والمسئولين عن حماية المستهلك .

توجهنا إلى السوق، ولكى يسهل علينا البحث قررنا إخفاء صفتنا الصحفية حتى لا  يشعر الباعة بالشك، وبالسؤال عن هؤلاء الباعة فى كل شبر بالسوق  ، أكد الجميع أنهم موجودون ولكن ليس  لهم مواعيد ولا أماكن محددة خوفًا من ملاحقة الأجهزة الحكومية، ومنذ أن وطئت أقدامنا السوق وأثناء بحثنا المضنى عن بائعى هذه ادوية، والذين كنا نعتقد أنهم الخطر الوحيد فى هذا السوق، اكتشفنا أن الأدوية التى تباع على الرصيف ليست الوحيدة التى تمثل خطراً، بل إن هناك ما هو أخطر، وهو بيع «أغذية غير صالحة للاستهلاك الآدمي»، الغريب أن الجميع يعلمون أن كل شىء، وأى شىء، يباع فى مثل هذه اسواق، وما لفت نظرنا أن المنتجات الغذائية من اللحوم واسماك والحلويات والأجبان وغيرها تباع بأسعار أرخص من اسواق اخرى، حتى الخضراوات تباع بجوار أكوام من القمامة ويحوم حولها ويلتهمها الذباب والحشرات، المثير للحزن والغضب أن أعدادًا كبيرة من مرتادى السوق يقبلون على شراء هذه اغذية مجهولة المصدر، غير عابئين الأمراض المستوطنة فيها.

تجولت «تحقيقات اهرام» على مدى أكثر من أربع ساعات فى السوق، لنكتشف أن  اسواق العشوائية تمثل حقا قنبلة موقوتة، فما وجدناه كانت سوقاً لبيع الأمراض لا السلع.

فأين الرقابة على هذه الأسواق ؟ 

قبل الوصول إلى مدخل السوق بدقائق تركنا السيارة وترجلنا لبضعة أمتار لنستكشف المكان، وكان على جانبى الطريق «طريق النفق» يصطف الباعة بجوار بعضهم يجلسون بشكل عشوائى لا يفصل بينهم وبين بعضهم شىء،  يفترشون ارصفة ببضاعتهم المتواضعة والتالفة كما هو واضح جليًا فكل ما لا يتخيله عاقل يباع ويشترى، العجيب أن بعضهم يعرضون بضائعهم وينادون عليها بحماس زائد وبأصوات عالية ويحاولون جذب الزبون وإغراءه باسعار زهيدة لا يمكن أن يجدها فى مكان آخر - كما يقول - وآخرون يجلسون دون أن ينطقوا ببنت شفة، ينظرون ببؤس شديد إلى المارة، وبوجوه عابسة رسمت على قسماتها الشقاء يردون فقط فى حال سؤالهم عن سعر شىء مما يبتاعونه، كل عدة أمتار نكرر السؤال عن «بائعة ادوية» وكل شخص يصف مكانا مختلفا عن سابقه، وبعد  دقائق  معدودة كنا داخل السوق، مررنا بباعة يعرضون الحلويات والبسكويت المغلف والتى تباع بنصف الثمن، أخذنا الفضول لنتفحص بعضها، لنصدم بأن جميعها انتهت صلاحيته فى مدد تتراوح بين 3 و 8 أشهر،  ومنها أيضا حلوى من «بواقى المصانع» غير مغلفة، توضع بجوال متوسط الحجم وتباع بأقل من نصف الثمن، ولم نكن مضطرين لأن نبحث عن تاريخ الصلاحية للتأكد من عدم سلامتها، يكفى أن نشم رائحتها لنتأكد أننا أمام سلعة فاسدة بكل المقاييس، هذا بخلاف المخللات التى تباع بجانب الحلوى والتى يبدو فسادها من مظهرها وشكل «الجرادل المتسخة» التى تحويها أنها أعدت تحت بئر السلم. 


انعطفنا يسارًا فى الاتجاه الذى دلنا عليه أحد البائعين عن بائعى ادوية، وكلما سرنا فى إتجاه تلاحقنا الروائح العفنة التى تشمئز منها الأنوف تحيطنا من كل مكان، فهنا تباع الكبدة وأحشاء الحيوانات، تجلس إحدى السيدات  وتنظفها بطريقة مقززة وبسؤالها عن الأسعار وجدنا أن كيلو الكبدة والتى يغطيها السواد بـ 50 جنيها وبدون محاولة للفصال من جانبنا، قالت البائعة سأعطيه لكما بـ 40 جنيها وكذلك اللحم الذى يكتسى بالدهن يباع بنفس السعر، أما «الكرشة» فهى بـ 30 جنيها، وبعد محاولات يائسة منها لاقناعنا بالشراء تركناها، فى الجهة المقابلة لها وبجوار أكوام القمامة تجلس بائعة سمك تفوح منه رائحة كريهة ويدل شكله على قرب فساده ويباع بـ 25 جنيها، وبجوارها يعرض بائع فسيخ ورنجة بضاعته والتى ما إن مررنا بجانبها حتى أصابنا الغثيان من شدة رائحتها العفنة وشكلها المقزز، فهى موضوعة فى أطباق بلاستيكية قذرة من نوعية سيئة الجودة، ويغطيها سائل أحمر اللون، ويباع الفسيخ حسب حجمه فالصغير منه  بـ 60 جنيها والكبير 80 جنيها، هذه اسعار قابلة للفصال، أما بائعة الرنجة التى تبيع الكيلو بـ 25 جنيها، فكانت تضع بجانبها عدة زجاجات زيت تفرغ منها فوق الرنجة حتى يعطيها لمعانا يغطى على لونها الباهت الذى يعد دليلا على عدم سلامتها.

توغلنا فى قلب السوق، وتغللنا فى الأزقة والشوارع الضيقة والتى يفترش الباعة كل شبر منها، فهنا تباع ملابس البالة والأحذية المستعملة، وهناك المفروشات، وفى مكان آخر تباع الطيور الحية وبجوارها طيور مذبوحة معروضة بدمها الذى لم يجف بعد، ولم يتم تنظيفها بالماء، وهناك من يبيعون الأدوات المنزلية، وهنا مكان مخصص لبيع السجاد، أما الشارع الموازى فمخصص لبيع البقوليات، والجهة الغربية تباع فيها حيوانات أليفة وعصافير، وهذه الحارة مخصصة لافتراش ما تتخلص منه بعض الصيدليات ومراكز التجميل، وما تنتجه مصانع بير السلم من أدوات تجميل وكريمات وصبغات بعبوات متهالكة مسجل عليها تواريخ منتهية الصلاحية منذ شهور طويلة، ورغم ذلك يتم عرضها للبيع، الغريب أن بعض العبوات الخاصة بالبشرة مستعملة من قبل، والمتبقى منها يتم بيعه، ومع بحثنا المستمر عن سيدة الدواء المنتهى الصلاحية وتبادل الحديث مع مرتادى السوق وجدنا بعضهم يعلم مدى خطورة ما يشترونه.

شراء اض محمد عباس طراري

«ما باليد حيلة» عبارة قالتها سيدة أربعينية أرملة وتعول 4 أطفال فى مراحل التعليم المختلفة وتعمل عاملة نظافة فى إحدى حضانات اطفال وراتبها لا يتعدى 400 جنيه ومعاش زوجها 800 جنيه، ومنهم لا يعلم جرم ما يفعله فى نفسه وفى أولاده وحتى بعد التوجيه غير المباشر لهؤلاء بخطورة هذه الأغذية كان الرد صادمًا «ماذا نفعل؟!»، هذا السوق أسعارها مناسبة لإمكاناتنا ونتعامل معها منذ سنوات ولم يحدث شئ! لقد أعيتنا الحيل وأنهكنا البحث فى العثور على سيدة الدواء، وكان أكثر شئ إيجابية وطرافة فى نفس الوقت نصيحة  الباعة الذين كنا نستدل منهم عن أماكن بيع ادوية بالابتعاد عن شراء الأدوية المنتهية الصلاحية، نها مضرة وستجلب امراضا لا محالة، وحثونا على الشراء من الصيدليات.

أمن غذائى

انتهت جولتنا فى السوق وخرجنا للبحث عن إجابة هذا السؤال: هل الدواء المنتهى الصلاحية فقط ما يجلب امراضا؟! السؤال وضعناه أمام المسئولين والجهات الرقابية على هذه الأسواق.

يقول حسين منصور رئيس هيئة سلامة الغذاء أن ما يباع فى الأسواق العشوائية من منتجات فاسدة قضية أمن غذائى أكثر منها سلامة غذاء، مشيرا إلى أن الفقر هو الدافع وراء الإقبال على مثل هذه المنتجات، فالمهم تأكد المستهلك من أن المنتج تم تخزينه وتداوله بطريقة سليمة «كما هو مدون على العبوة»،  فإذا كانت غير سليمة فإنها تؤدى إلى فساده، وبالتالى يصبح المنتج غير قابل للاستهلاك الآدمى على الرغم من عدم انتهاء مدة الصلاحية، كما أن انتهاء مدة الصلاحية يعنى انخفاض جودة المنتج وليس فساده أو عدم صلاحية، موضحا أن القضية تنحصر فى الوعى وليس الرقابة.


ويرى أحمد العرجاوى عضو لجنة الصحة بالبرلمان أن انتشار الأسواق العشوائية يرجع إلى عدم تفعيل التشريع الخاص بهذه الأسواق وغياب دور مديريات الصحة، والحملات التفتيشية للطب الوقائى، بالإضافة إلى دور الإدارة العامة لمراقبة الأغذية المنوط بها أخذ عينات من جميع المحال والمصانع لمتابعة جودة الإنتاج وتاريخ الصلاحية.

فإذا كان مفتشو الضبطية يعملون بمقابل مادى لا يتناسب مع احتياجاتهم، فكيف لهم ألا يقعوا تحت وطأة الكسب غير المشروع، وغض الطرف عن ممارسة واجبهم، ولحل هذه المعادلة يجب على الدولة سد احتياجات المفتش حتى يواجه كل هذه المغريات.

وأكد  العرجاوى ضرورة توفير وزارة الداخلية تغطية أمنية لمفتشى الضبطية حتى يتمكنوا من أن يقوموا بعملهم بالتفتيش على هذه الأسواق دون الخوف من التعرض للاعتداء عليهم، متسائلا: كيف يحدث ذلك فى ظل قلة أعداد القوات الأمنية؟!

أمراض خطيرة

ويحذر محمود حمدى أبو الخير عضو لجنة الصحة بالبرلمان من خطورة تداول الأدوية منتهية الصلاحية على صحة الإنسان، لما تسببه من أمراض خطيرة كالسرطان، والتليف الكبدي، والفشل الكلوي، والتى يمثل علاجها عبئا على كاهل الدولة، فالأدوية منتهية الصلاحية منها ما يباع بمثل هذه الأسواق العشوائية، ومنها ما يعاد تدويره فى مصانع «بئر السلم» ليتم طرحها للبيع مرة أخرى بعد تغيير تاريخ الصلاحية، وترجع هذه الظاهرة الى عدة أسباب على رأسها انعدام الضمير لبعض الصيادلة والتقصير الشديد من وزارة الصحة والتفتيش الصيدلى والإدارة المركزية لشئون الصيادلة التى تمثل العنصر الأساسى لمراقبة سوق الدواء، والمندسين على مهنة الصيدلة، حيث إن 10% من أصحاب الصيدليات ليسوا صيادلة، وعدم التزام الشركات بسحب الأدوية منتهية الصلاحية.

وأضاف أبو الخير أنه تقدم  بطلب إحاطة بالبرلمان بخصوص هذه الظاهرة فور تداول الصور على السوشيال ميديا، وسيتم مناقشة طلب الإحاطة فى لجنة الصحة بالجلسات القادمة مع وزيرة الصحة ونائب الوزير لشئون الدواء، وطالب بضرورة إنشاء هيئة مصرية مستقلة لصناعة الدواء خاضعة لرئاسة مجلس الوزراء وظيفتها مراقبة صناعة الدواء وإيجاد حلول للمشكلات المتعلقة به.

أسواق منظمة

وتطالب سعاد الديب رئيس الاتحاد النوعى للجمعيات الأهلية وعضو مجلس إدارة جهاز حماية المستهلك بتفعيل الرقابة على الأسواق العشوائية وتحويلها الى أسواق منظمة، خاضعة للإشراف الحكومي، يسجل بها بيانات كل تاجر تحت الكود الخاص به، الذى من خلاله يستطيع المستهلك الرجوع إلى التاجر فى أى مشكلة فى المنتج المباع، وناشدت الحكومة القضاء على الحلقات الوسيطة من خلال تطبيق نظام «من المنتج للمستهلك» الذى يعمل على خفض الأسعار بنسبة كبيرة، كما طالبت المواطن بخفض حجم استهلاكه والتخلى عن التخزين بشراء احتياجاته فقط.


قليلة سليمة أفضل

الدكتورة عفاف أمين  الأستاذ  بالمعهد القومى للتغذية لسلامة الغذاء تطالب بتوعية المواطنين من هذه الفئات بالاقتصاد فى الشراء، وترسيخ فكرة شراء كميات قليلة سليمة أفضل من شراء كميات كبيرة فاسدة، وأن ما يوفرونه من شراء هذه الأطعمة سينفقون أضعافه على علاجهم من امراض التى ستصيبهم، مشيرة إلى ضرورة تفعيل دور هيئة سلامة الغذاء فى هذه المناطق، فالسوق ليست شركات ومصانع كبيرة فقط، وأشارت إلى خطورة تداول اطعمة بهذا الشكل على صحة الإنسان، فالطعام المكشوف  تنصح بعدم استخدامه إذا تم عرضه لأكثر من ساعة فى الهواء، لأنه يحمل كما هائلا من الأمراض بدءا من النزلات المعوية وارتفاع درجات الحرارة وانتهاء بالإصابة  بالسرطان، كما شددت على دور الإعلام ومؤسسات الدولة فى التوعية والتى لابد وأن تكون من خلال قنوات مرئية منتشرة وتصل الى أكبر عدد من الناس.

الدكتورة عقيلة صالح المنسق العام لمركز معلومات الأمن الغذائى ومؤسس المركز الإقليمى للأغذية والأعلاف  أوضحت أن امن الغذائى دوره ليس رقابيًا  وإنما توعويا، حيث يقوم  المركز بعقد ندوات ويشارك فيها ممثلون من  كل الوزارات ومؤسسات المجتمع المدنى  بالإضافة إلى ذهابنا لمحافظات الصعيد لتوعية الناس بأهمية حصولهم على غذاء آمن ونظيف.