لماذا عجز الاستزراع السمكي عن كبح جماح الأسعار؟

Idea Icon

الملخص المفيد

وسط المياه على امتداد وادي النيل في مدينة رشيد بالدلتا، أقصى شمالي مصر، زُرعت أقفاص خشبية وشباك واسعة مرفوعة على براميل بلاستيكية، تحتوي على عشرات الآلاف من الأسماك النهرية المملوكة لمستزرعي السمك، مستفيدين من مرور نهر النيل بمدينتهم، ومن بينهم عائلة “مالك الشرقاوي” الذي يعمل في استزراع الأسماك منذ 25 عامًا.

لماذا عجز الاستزراع السمكي عن كبح جماح الأسعار؟

وسط المياه على امتداد وادي النيل في مدينة رشيد بالدلتا، أقصى شمالي مصر، زُرعت أقفاص خشبية وشباك واسعة مرفوعة على براميل بلاستيكية، تحتوي على عشرات الآلاف من الأسماك النهرية المملوكة لمستزرعي السمك، مستفيدين من مرور نهر النيل بمدينتهم، ومن بينهم عائلة “مالك الشرقاوي” الذي يعمل في استزراع الأسماك منذ 25 عامًا.


يقول “مالك” إن الاستزراع السمكي في النيل أقل تكلفة إنتاجية من نظيره بالمزارع السمكية في الأحواض بالأراضي الطينية أو الصحراوية، كونه لا يحتاج إلى مضخات للمياه ووقود لتشغيله أو عدد عمال كبير، على عكس المزارع في المناطق الطينية والصحراوية، التي هي بحاجة إلى عامل مقيم، وإطعام الأسماك الخبز أولًا حتى يزداد وزنها ثم إمدادها بالعلف في المرحلة الأخيرة.

ومع ذلك، يؤكد أن ارتفاع التكلفة الإنتاجية للأسماك في المزارع السمكية بشكل عام وغير مسبوق قد أضر بهذه الصناعة وأثر على أسعار الأسماك في بيئاتها المختلفة وفي الأسواق، بما ارتد على القدرة الشرائية للمستهلكين.

تكلفة الاستزراع السمكي

قبل سنوات، كان سعر طن العلف يتراوح بين 7 و8 آلاف جنيه. وصل سعره حاليًا إلى 40 ألف جنيه للطن متأثرًا بأزمة الدولار. كذلك ارتفعت أسعار السولار اللازم لتشغيل مضخات المياه في الأحواض بالمزارع السمكية في المناطق الطينية والصحراوية. كما ازدادت أجور العمالة إلى نحو 6 آلاف جنيه للعامل الواحد. تحتاج المزرعة السمكية الواحدة ثلاثة عمال مقيمين على الأقل، بحسب ما يذكره “مالك”، في حديثه لمنصة “فكر تاني”.

“الدورة الإنتاجية للأسماك مدتها من سنة لسنتين. السمك عندي بيحتاج في الشهر طن علف من مصانع العلف المصرية، وطن ونص مكرونة للتسمين، والتكلفة الإنتاجية من 65 إلى 80 جنيه، ومكسبنا في الكيلو بيوصل لحوالي 20 جنيه. البلطي بيخرج من المزرعة بـ 85 والبوري بـ 100، طبعًا بتزيد عليه تكلفة النقل لحد ما يوصل للأسواق”؛ يقول “مالك”.

“تربية السمك وإن كانت في النيل أسهل فهي محتاجة خبرة وحذر وإلا السمك يموت وصاحبه يخسر.. لازم متابعة لنسبة الأكسجين وضخ مياه جديدة، لأن ممكن الشبورة بتاعت الصبح بدري والرطوبة العالية تخلي الأكسجين ينقص في المياه والسمك يموت، عشان كده لازم عمال مقيمين في المزرعة أو غفير لو السمك في أقفاص بالنيل، يراعوا السمك ويحطوا له أكل مرتين في اليوم”؛ يضيف مالك.

خسائر الاستزراع السمكي

أسس المهندس ممدوح محمد مزرعة سمكية في قرية “شكشوك” بمحافظة الفيوم، تُنتج البلطي والبوري على مساحة خمسة أفدنة.

يعمل “ممدوح” مع فني وغفير على تغيير مياه الأحواض كل ثلاث ساعات لضمان توافر الأكسجين للأسماك، كما يُطعمونها العلف مرتين يوميًا.

كان يحقق ربحًا معقولًا في السنوات الماضية، إلا أن ارتفاع تكاليف التشغيل في الفترة الأخيرة أدى إلى زيادة خسائره.

أنفق “ممدوح” أكثر من 125 ألف جنيه سنويًا على المزرعة؛ تحصل الدولة على 1750 جنيه إيجارًا للفدان، وتُكلف مضخات المياه بالكهرباء 10 آلاف جنيه شهريًا، مقارنة بتكلفة 7 آلاف شهريًا باستخدام السولار، والذي يلوث البيئة ويتسبب في أعطال بنظام ضخ المياه، كما يتراوح أجر العامل الواحد بين 6 و7 آلاف جنيه شهريًا، أي بين 72 و84 ألف جنيه سنويًا.

يوضح “ممدوح” أن إنتاج كيلو من السمك يحتاج إلى كيلو ونصف الكيلو إلى 1600 جرام من العلف، الذي كان يكلف 37 ألف جنيه للطن خلال فترة ارتفاع سعر الدولار إلى 70 جنيهًا، ما انعكس على التكلفة الإنتاجية.
رغم انخفاض سعر العلف الآن إلى 27 ألف جنيه، لجأ مربو الأسماك إلى استخدام مخلفات الدواجن لتغذية الأسماك معظم الدورة الإنتاجية، قبل أن يعطونها العلف في الشهرين الأخيرين.

يقول “ممدوح” إن المزارع السمكية في الفيوم يجب أن تنتج بين 4 و6 آلاف طن سمك سنويًا، لكنها تنتج نحو 2000 طن فقط بسبب تلوث المياه بالصرف الصحي وانخفاض مستوى المياه في وادي الريان خلال الصيف. ويشير إلى أن قلة خبرة بعض المزارعين وعدم اعتمادهم على الأساليب العلمية يؤدي إلى انخفاض الإنتاج ونفوق الأسماك بسبب البكتيريا الضارة أو نقص الأكسجين.

ويؤكد على الضرر الواقع عليهم بفعل تكاليف الإنتاج المرتفعة؛ فيقول: “تبلغ تكلفة إنتاج كيلو السمك نحو 65 جنيهًا، يُباع البلطي من المزرعة بأسعار تتراوح بين 45 و80 جنيه حسب الحجم، والبوري بين 90 و130 جنيه حسب الوزن، بعد دورة إنتاج تصل إلى سنة”، لافتًا إلى أن وضع رؤوس الأموال في البنوك بعائد يصل إلى 27% دون جهد قد يكون خيارًا أفضل مقارنة ببيع إنتاج المزارع.

الضرر يطال أصحاب المراكب

ليس فقط أصحاب المزارع السمكية من تضرروا بارتفاع الأسعار، طال الضرر أيضًا أصحاب مراكب الصيد والصيادين، ومن بينهم “حسين بكار”، الذي يعيش في الإسكندرية ويمتهن الصيد البحري منذ 17 عامًا.

“أدوات الصيد والطعوم أسعارها زادت أضعاف، والناس اللي بتصطاد على المراكب هما أكتر ناس متضررة بعد الغلاء، لأن رحلة الصيد محتاجة وقود جاز أو بنزين، والأكل والسجاير، وكل دول غليوا، وممكن مركب يتكلف مصروف عشرين أو تلاتين ألف جنيه في السرحة وما يجيبش سمك بيهم، ودي بتبقي خسارة فلوس ووقت وجهود”؛ يقول “حسين”، والذي اختار الصيد على البر بدلًا من ذلك، مستخدمًا “الغزل” أو الشباك والبندقية أو الحاربون، وهو رمح مزود بخطافات أو كلابات.

ويضيف “حسين”: “لكل نوع موسم للصيد، وأكتر سمك بصطاده البوري والشراغيش والدنيس والقاروس والأخطبوط، بصطاد بالليل وأخلص وأطلع بعد الفجر على حلقة السمك في بحري، بخش بالسمك على معلم صاحب مكان في الحلقة ببيع السمك له وياخد مننا كصيادين نسبة 7%، والتاجر يشتري السمك يضرب سعره في اتنين.. بصراحة فيه جشع من التجار، وأكتر واحد مستفيد هو التاجر اللي شغال بفلوسه، لكن أنا شغال بصحتي، ومعرض للإصابات وبرد الشتا والمجهود البدني الرهيب بيأثر على الصحة سنة ورا سنة”.

تراجع إنتاج المصايد

تنتج مصر سنويًا أكثر من 2 مليون طن من الأسماك، بحسب الإحصاءات، وينتج البحر المتوسط نحو 11% من الإنتاج السمكي الكلي، بينما ينتج خليج السويس والبحر الأحمر 8.81% من الإنتاج الكلي سنويًا، ويبلغ عدد المزارع السمكية في مصر أكثر من 7000 مزرعة، بإجمالي مساحة 320 ألف فدان، يمثل إنتاجها أكثر 90% من إجمالي الإنتاج المصري للأسماك، ويعد 90% من إنتاج هذه المزارع من أسماك البلطي. وتبلغ مساحة المصايد السمكية في مصر  أكثر من 13 مليون فدان، ويعمل في هذا القطاع أكثر من 500 ألف صياد.

بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن إجمالي الأسماك التي تم صيدها من المياه البحرية في مصر عام 2021 بلغت 95 ألفًا و627 طنًا. وتمتلك مصر أكثر من 10 بحيرات عملاقة تعد مصدرًا مهمًا للثروة السمكية، تم تطوير بعضها، مثل: بحيرة قارون وبحيرة المنزلة والبرلس، بتوجيهات رئاسية.

ووفقًا لتقديرات الإحصاء، فإن عدد مراكب الصيد المرخصة بالمصايد البحرية والبحيرات والمياه العذبة خلال العام نفسه، بلغ 27 ألفًا و90 مركبًا، بينها 3 آلاف و481 في البحر المتوسط، وألفًا و688 في البحر الأحمر.

وخلال السنوات الماضية، نفذت الحكومة المصرية العديد من مشروعات الاستزراع السمكي، ضمن  المشروع القومي للاستزراع السمكي؛ ففي يناير 2021، افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي، مشروع الفيروز للاستزراع السمكي بشرق التفريعة في محافظة بورسعيد، وتم افتتاح مشروع بركة غليون بمحافظة كفر الشيخ، وفي أغسطس 2023 تم افتتاح المرحلة الأولى بعدد 1034 حوض كخطوة استرشادية من إجمالي 4440 حوضًا للاستزراع السمكي، بشرق قناة السويس.

ووفقًا لموقع الهيئة العامة للاستعلامات، تستهدف مصر تصدير 2.3 مليون طن من الأسماك.

وتحتل مصر المركز الأول في إفريقيا ودول حوض البحر المتوسط في الاستزراع السمكي، بطاقة إنتاجية تبلغ أكثر من 2 مليون طن.

الفقر المائي والتكاليف عائقان أمام تعزيز إنتاج الأسماك

يقول الدكتور علاء الحويط، عميد كلية تكنولوجيا المصايد والاستزراع المائي بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري السابق، إن مصر تمتلك مساحات واسعة من المياه الطبيعية، لكنها تفتقر إلى التيارات البحرية القوية والمخصبات التي تدعم الغذاء للكائنات البحرية، مما يضعف الإنتاج السمكي مقارنة بالدول الساحلية الأخرى.

ويضيف “الحويط”، في تصريحاته لـ”فكر تاني”، أن الصيد الجائر للأسماك منذ آلاف السنين يزيد الضغط على المصائد الطبيعية، بالإضافة إلى سوء إدارتها وعدم تطبيق القوانين المنظمة للصيد بشكل كامل، مما أضعف الثروة السمكية.

ويشير “الحويط” إلى أن الثقافة الغذائية تغيرت خلال الـ20 سنة الأخيرة، مما أدى إلى زيادة الطلب على الأسماك مع قلة المعروض، وبالتالي ارتفاع الأسعار.

ويلفت كذلك إلى ارتفاع أسعار السولار اللازم لتشغيل مراكب الصيد أثر على أسعار الأسماك، حيث يمثل السولار 60% من تكلفة كل رحلة صيد. كما أن ارتفاع أسعار المراكب المستوردة، والشباك ومعدات الصيد المصنعة محليًا من مواد خام مستوردة، إلى جانب زيادة يومية الصياد إلى 300 أو 400 جنيه لتتناسب مع ارتفاع الأسعار، زاد من تكلفة الصيد.

في الثمانينات، كان الاستزراع السمكي ينتج بضعة آلاف من أطنان الأسماك، قبل افتتاح مزارع الأسماك في كفر الشيخ في التسعينات، وازدهاره خلال مطلع الألفية. إلا أن معدلات النمو انخفضت بعد ثورة يناير بسبب المتغيرات السياسية والقرارات المتعلقة بالاستزراع السمكي، مثل رفع القيمة الإيجارية للفدان من 200 جنيه إلى 4000 جنيه، مما زاد من التكاليف واضطر بعض أصحاب المزارع لإغلاقها.

ويؤكد “الحويط” أن تضارب القرارات المنظمة لحركة الأسماك، مثل قرار محافظ كفر الشيخ بمنع نقل الذريعة لتستفيد منها المحافظة فقط، وقرار محافظ البحر الأحمر بمنع الصيد في البحر الأحمر لمدة خمس سنوات بحجة الحفاظ على الشعاب المرجانية، ساهم في تعقيد الوضع.
“الحويط” يستنكر اتهام الصيادين بالمسؤولية عن دخول أسماك القرش إلى الشواطئ، مؤكدًا أن القرارات غير المدروسة تضعف قطاع الصيد البحري والاستزراع السمكي.

الدوائر الوسيطة ترفع أسعار الأسماك في مصر

عن الأرقام يتحدث الدكتور رفعت الجمل، مدير المعمل المركزي لبحوث الثروة السمكية التابع لمركز البحوث الزراعية، لـ”فكر تاني”، فيقول إن متوسط نصيب فرد في الإنتاج المحلي يبلغ 20.5 كيلو سنويًا، ويصل إلى 23 كيلو، بينما تنتج المصائد الطبيعية في مصر 450 ألف طن، منها 100 ألف طن من البحرين الأحمر والمتوسط، وقرابة 1.6 مليون طن من الاستزراع السمكي، الأمر الذي يحقق اكتفاءً ذاتيًا لمصر مع استيراد كميات قليلة لإرضاء الأذواق المختلفة.

ويشير “الجمل” إلى مشروعات الاستزراع السمكي التي أنشأتها الدولة مثل مزارع الفيروز ومشروع بركة غليون في الإسماعيلية، التي تنتج أسماكًا بحرية فاخرة كاللوت والدينيس والقاروس والجمبري. لكنه يعلل ارتفاع الأسعار بأن دورة الإنتاج تستمر 18 شهرًا وتحتاج لكميات كبيرة من الأعلاف والوقود، حيث يحتاج الكيلو من السمك إلى 1.5 إلى 2 كيلو من العلف بتكلفة 45 جنيهًا، بالإضافة إلى تكلفة الطاقة والعمالة، ليباع البلطي من المزرعة بأسعار تتراوح بين 50 و70 جنيهًا، والبوري بين 125 و130 جنيهًا. وهو يتهم ما أسماه “الدوائر الوسيطة” من التجار الذين يرفعون السعر، فيصل إلى المستهلك بما هو مبالغ فيه.

ويصرح الدكتور صلاح مصيلحي، رئيس جهاز تنمية البحيرات والثروة السمكية، بأن عوامل ارتفاع أسعار الأسماك تشمل وجود الدوائر الوسيطة من تجار الجملة والتجزئة والنقل، مما يضاعف أسعار الأسماك. ويشير إلى أن العلف يشكل 75% إلى 80% من وزن السمكة، وتتأثر أسعار الأعلاف بارتفاع معدلات التضخم المحلي والعالمي.

ويوضح أن أسعار أسماك المزارع التي تشكل 80% من الإنتاج المحلي، وترتفع خلال مواسم الاستزراع في مارس وأبريل ومايو، وتنخفض في شهور الحصاد.

ويقول مصيلحي إن الدولة أقامت العديد من مشروعات الاستزراع السمكي خلال السنوات الثلاث الماضية، ولكن تأثير إنتاجها على الأسواق لن يظهر قبل عامين أو ثلاثة نظرًا لكونها لا تزال في مرحلة الاختبار والتجارب وتواجه معوقات خلال دوراتها الإنتاجية.

ويتوقع أن مشروع الدولة الجديد للاستزراع السمكي في الأقفاص البحرية، والمقرر أن يتم فتح الباب للمستثمرين العرب للاستثمار فيه، أن يؤثر بشكل كبير على الأسواق.

ويشير إلى أن الاستزراع السمكي في نهر النيل يواجه معوقات مع المسطحات المائية لأنه نشاط غير مرخص، مما يجعل الأسماك عرضة للنفوق عند ضخ كميات كبيرة من المياه.