منذ ما يقرب من عشرة أعوام لم تكن قرية «دماص»، مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، تختلف عن غيرها من القرى الأخرى، أشجار «الفيكس» تنتشر على جانبى ترعها بشكل عشوائى، إلا أن الدكتور عبدالمنعم العنانى فكر باستبدال شجر «الفيكس» عديم القيمة الاقتصادية بشجر «الماهوجنى» ذى القيمة الاقتصادية المرتفعة، لتصبح «دماص» أولى القرى المصرية التى تضم أكبر مشاتل أشجار «الماهوجنى» التى تنتشر على مداخل طرقات وجوانب الترع والمصارف.
لم تخل أفلام السينما المصرية خلال فترة الخمسينيات والستينيات من المشاهد البديعة التى تضم لوحات فنية طبيعية للأشجار المزهرة الجميلة، بألوانها الزاهية والكثيفة فى الشوارع والطرقات، وخلال العام الماضى جاءت مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى، لزراعة مليون شجرة مثمرة بالمناطق الفقيرة والحدائق العامة والميادين العامة، وداخل المدارس وعلى الطرق الرئيسية والفرعية بالمدن والقرى للتأكيد على غرس ثقافة التشجير فى مصر.
الدكتور عبدالمنعم العنانى، صاحب مبادرة زراعة أشجار «الماهوجنى»، أحد أهالى القرية، أوضح أن اختياره نوع الشجرة جاء لعدة أسباب اقتصادية وبيئية وصحية وسياحية، قائلا: «شجرة الفيكس المنتشرة فى شوارع مصر ليس لها أى قيمة اقتصادية حتى بمرور 100 عام، لأن خشبها ليس له لب، بينما شجرة الماهوجنى من الناحية الاقتصادية يصل سعر المتر المكعب الواحد فيها إلى 600 جنيه، وعند الاستغناء عن الشجرة وتقطيعها فإنه يتم استخدامها فى مكامير الفحم، لذلك كان يحرص الإنجليز وقت الاحتلال على زراعة الكافور والكازولين على الطرق والترع فى مصر، لأنهما من الأشجار ذات القيمة الاقتصادية».
وتابع العنانى: «مصر حدثت لها تغييرات مناخية أخيرة وارتفعت درجات الحرارة بشكل كبير، وأصبح من الصعب أن تسير فى الشوارع وقت الظهيرة، بسب تعامد الشمس وغياب الأشجار عن الشوارع، لأننا بلد بلا ظل رغم حرص الفراعنه على زراعة الأشجار بل إنهم قدسوها ولقبوها بـ(نهت)، وتعد أقدم شجرة جميز بمصر موجودة بمنطقة المطرية شمال القاهرة، وتلقب بشجرة مريم؛ لأنها الشجرة التى ظللت السيدة مريم العذراء وطفلها سيدنا المسيح، عليه السلام، عند لجوئهما لمصر، وهى مستديمة الخضرة تحمل ثمارها على فريعات قصيرة دون أوراق تخرج من الأفرع الغليظة، ومن خشبها صنعت توابيت الفراعنة ويصنع منها السفن والمراكب».
ومن الناحية البيئية أكد العنانى أن شجرة «الماهوجنى» تعمل كمصد للريح وتثبيت الطرق والترع من الانهيارات، وقال: فى زياراتى لعدد من الدول فى الخارج تلاحظ ارتفاع الأشجار عن المبانى وتنتشر أشجار الماهوجنى على جانبى الطرقات، لأنه يقلل من معدلات تلوث الهواء والاحتباس الحرارى فى مصر، حيث إن الشجرة الواحدة تجنبنا من 10 إلى 11 كجم من غازات الكربون المنبعثة من محطات توليد الطاقة من خلال ترشيد استهلاك الطاقة فى المنازل، بجانب دوره فى خفض درجة حرارة الهواء المحيط وإبطاء عملية تكوين الضباب الدخانى، حيث إن الضباب الدخانى يشكل 42% من أسباب ملوثات الهواء».
كان قسم التشريع بمجلس الدولة، قد وافق على مشروع التعديل الجديد لقانون الرى والصرف رقم 12 لسنة 1984، ونص التعديل، فى مادته رقم 92 على تغليظ عقوبة قطع الأشجار والنخيل فى حال عدم الحصول على ترخيص بذلك من وزارة الرى، بغرامة تقل عن ألف جنيه وتزيد على 5 آلاف جنيه، عن قطع كل شجرة أو نخلة.
وكانت العقوبة فى القانون القديم غرامة تقل عن 30 جنيها وتزيد على 200 جنيه.
وأشار الدكتور محمود رأفت، أستاذ البيئة إلى أن الأشجار أساس التوازن البيئى فى الكرة الأرضية، وهى التى تلطّف الأجواء وتقلّل من نسبة التلوث، وتساعد فى زيادة نسبة أكسجين الهواء الجوى، فحتى عند تصنيعها لغذائها فإنها تسهم فى تقليل نسبة الغازات الضارة فى الهواء، خصوصاً غاز ثانى أكسيد الكربون، لذلك تعد الشجرة بمثابة منقى طبيعى للبيئة، وملطفة للأجواء، إضافة إلى تقليلها لنسبة الملوثات، وهذا كله لا يقلل من كونها مصدراً للغذاء والتدفئة وصناعة المشغولات الخشبية، بالإضافة إلى تجميلها للبيئة والمكان الذى تكون فيه، وقدرتها على نشر الظلال ليرتاح فيها الإنسان والحيوان.
ورصد العنانى فى جولته لعدد من الدول الأوروبية، أهمية الشجر فى الشوارع حيث إنه محاط بالسياج، فالشجر لا يتوقف دوره على نشر الظل فقط، وإنما أثبت قدرته على تثبيت الطرق والترع من الانهيارات، وإطالة عمر الأسفلت والإطارات، لذلك ترى جميع الأشجار هناك أعلى من المبانى، بخلاف شوارعنا فى مصر لن تجد شوارع مرتفعة حتى فى المدن الجديدة مثل التجمع الشروق والعبور.
طوال ما يقرب من 10 أعوام ماضية خضعت قرية «دماص»، لمجموعة من تجارب زراعة بذور أشجار «البالوط» و«الزان» و«خشب الورد» و«الماهوجنى» لاختيار الأفضل بينهما، ليثبت «الماهجونى» الأفريقى تفوقه على باقى الأنواع الأخرى فى جودة الخشب والنمو الأسرع، وذكر العنانى أنه طرق أبواب جميع المسؤولين من أجل تعميم زراعة أشجار «الماهوجنى» إلا أنه لم يجد من ينصت إليه على حد تعبيره.
وحول تكلفة زراعة شجرة «الفيكس» أوضح العنانى، أن تكلفتها تبدأ من 30 إلى 150 جنيها وتعطى الإيحاء الكاذب بانتشار الخضرة والتشجير، بينما تصل تكلفة «الماهوجنى» عشرة جنيهات فقط، وغير شرهة للمياه ولا تؤثر على الطرق، كما أنها تمتاز بالليونة حسب استخدامك فمن الممكن تربيتها بشكل طولى أو عرضى، وهى شجرة استوائية مثل أى نبات حى يحتاج إلى المياه والسماد، وتتحمل الحر والبرد الشديد والملوحة المرتفعة، وتنتشر على الطرق فى الأقصر وأسوان، وهى دائمة الخضرة ولا تضر بالمبانى أو الزرع المحيط بها.
وانتقد العنانى طريقة التعامل مع «تقليم» الأشجار فى الشوارع، وقال: «كلما زاد عدد أفرع الشجرة زادت نسبة الأكسجين المتولدة، والأشجار وظيفتها الأساسية تظليل الطريق، ومن الممكن قص أفرعها وورقها فى حالة اعتراض طريق السيارات أو أعمدة الإنارة، وما حدث فى حديقة الميريلاند يعد مذبحة للأشجار يعاقب عليها القانون، ولو قمنا بزراعة 10 ملايين شجرة سنحصل على ثروة بعد مرور 15 سنة لأن مصر ستتحول إلى قلعة صناعية ودولة مصدرة للأخشاب.
وحول رعاية أشجار «الماهوجنى» أوضح حسن السيد مهندس زراعى، أنه يتم سقاية الشتلات كل صباح، وفى أوقات تعرض البلاد لعواصف ترابية مثل الأخيرة التى حدثت لا يوجد خطورة على الشتلات الموجودة فى الصوب، بينما نحرص على سقى الشتلات بشكل أكبر من المياه، كذلك أيام السقيع، والشتلات تحتاج إلى رعاية أكبر فى العام الأول لها، وتختلف طريقة التعامل مع الشتلات فى التربة الطينية عن الرملية، فالشتلات فى التربة الرملية تحتاج إلى مياه بصورة أكبر عن الطينية خاصة فى فصل الصيف لارتفاع درجة الحرارة.
وعدد السيد مشاكل أشجار الماهجونى وقال أن أبرزها نسبة الإنبات قليلة، ويصعب الحصول عليها بطريقة سهلة ويتم استيرادها من دول غرب أفريقيا، الأمر الذى يدفعنا إلى بذل محاولات متكررة من أجل الحصول على موافقة لاستيراد كميات كبيرة، من أجل توفير فرصة أكبر لتوزيعها على المشاتل لتشجيع الجميع على زراعة الشجر الرابح، وهو الوصف الأقرب لـ«الماهوجنى».
دراسة أعدتها منظمة الحفاظ على الطبيعة والمعروفة اختصارا بـ (TNC)، ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية، أشارت إلى أن معدل تخفيض جسيمات التلوث بالقرب من شجرة يتراوح بين 7و 24 فى المائة.
وجسيمات التلوث المعروفة بـ(PM) هى جسيمات ميكروسكوبية، تعلق فى رئات الأشخاص الذين يتنفسون الهواء الملوث، ويمكن أن يتسبب التلوث الناتج عن تلك الجسيمات فى وفاة نحو 6.2 مليون شخص سنويا حول العالم، بحلول عام 2050، وذلك حسبما أشارت الدراسة.
وقال روب مكدونالد، المشرف على الدراسة، إن أشجار المدن تجلب بالفعل العديد من الفوائد، للأشخاص الذين يعيشون فى المناطق الحضرية.
وتابع: «متوسط انخفاض الجسيمات بالقرب من شجرة يتراوح بين 7 و24 فى المئة، وانخفاض درجة الحرارة يصل إلى درجتين مئويتين».
وأوضحت الدراسة فوائد الأشجار فى مقارنة حول 245 مدينة حول العالم، أظهرت فوائد انخفاض تكلفة الأشجار، مقارنة بالوسائل الأخرى فى تبريد وتنظيف الهواء.
وقال مكدونالد: «لقد درسنا كيف يمكن أن تساعد زراعة مزيد من الأشجار فى خفض تلوث هواء كل المدن التى درسناها إذا أنفق كل شخص من سكانها ما قيمته أربعة دولارات سنويا على زراعة الأشجار، فيمكن إنقاذ حياة ما بين 11و 36 ألف شخص سنويا، وهذه هى تقريبا نتيجة الحصول على هواء نظيف».
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن نحو 90 فى المئة من سكان المدن حول العالم عام 2014 تعرضوا لجسيمات عالقة فى الرئتين، تزيد على معدلات المنظمة لجودة الهواء.
وتقول المنظمة إن تلوث الهواء فى المناطق المفتوحة تسبب فى ثلاثة ملايين حالة وفاة مبكرة عام 2012، ومعظم هذه الحالات وقعت فى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
أوضح الدكتور محمود القيسونى، مستشار وزير السياحة الأسبق أن الشجر له مكانة عظمية ومحترم لدى العديد من شعوب العالم، مثل دولتى اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وهما يحتفلان سنوياً بتفتح زهور الكرز ويتسابق المواطنون للتنزه أسفلها وحولها والتقاط الصور وتصوير الأفلام فهى مناسبة مبهجة ينتظرها الجميع بشغف شديد. وأشار القيسونى إلى أن هناك دولا أعلنت محميات طبيعية لمساحات تضم أشجارا نادرة وجملية، خاصة أن هناك أشجارا معمرة تعدى عمرها 4000 عام، مثل أمريكا واستراليا، ويحرص الملايين من المواطنين على زيارتها لرؤية الأشجار العملاقة، وأصبحت مرتبطة بالقصص والأساطير.
واستكمل القيسونى: «خلال الستين سنة الماضية الشجرة الوحيدة التى تمت زراعتها ونشرها على جميع أرصفة الشوارع وبمعظم الحدائق هى شجرة الفيكس الرخيصة، والتى لا زهور لها وأوراقها كثيفة جداً تلتصق عليها الأتربة والعوادم، لينقلب لونها من الأخضر إلى الأسود دون مبالغة مشيراً إلى أنها شجرة ظل أولاً وأخيرا، وتحتاج لعناية ومتابعة مستديمة بالتقليم والتهذيب لضمان تخلل الهواء لفروعها ومنع تراكمات الأتربة، وهو ما لا يحدث بالمرة، فمن النادر مشاهدة عمليات تقليم وتهذيب للأشجار فى محافظات مصر، مما حول هذه الأشجار إلى منظر لا جمال فيها مغطاة بالقاذورات والأتربة حتى الشجر الذى جف تماماً، ومات منذ سنوات وشكل هياكل قبيحة لا تتم إزالتها وإحلالها بشجر جديد».
وقارن القيسونى بين وضع الأشجار فى مصر ودول الخارج، وقال: «شجرة الجميز المعروفة بصمودها وكبريائها إلا أنها أصبحت هزيلة ومهملة أمام المتحف الزراعى بمنطقة المهندسين، وتعيش على قشرتها الخارجية فقط أى على اللحاء بينما قلبها أو جوفها من خشب رخو، وعند الاقتراب منها تجد قلبها من الداخل مغطى تماماً باللون الأسود والناتج عن الحرق وبها تجويف هائل يمكن لخمسة أشخاص الوقوف داخلها واللحاء، والقشرة الخارجية محطمة فى عدة أماكن ورغم كل هذه المهانة والقسوة البشرية إلا أن فروعها مغطاة تماماً بثمار الجميز والورق الأخضر».
بينما فى الخارج بحسب «القيسونى» تجد الأشجار محاطة بسياج لحمايتها، فهناك أشجار الخشب الأحمر أو «السيكوية» أعلى شجرة فى العالم تبلغ مائة وسبعة وعشرين متراً، أى ما يوازى عقارا ارتفاعه واحد وثلاثون طابقا توجد فى تجمعات على سواحل المحيط الباسيفيكى بولاية كاليفورنيا، ويتعدى عمرها الألف عام قاومت الأعاصير والنيران وهى محمية بقوانين، ويوجد أكثر من مائة وثمانين شجرة يتعدى طولها 116 متراً أى ما يوازى عقارا ارتفاعه 29 طابقاً، وتعد من الرموز القومية للولايات المتحدة الأمريكية.