«غيطان» الصف.. كارثة عمرها ربع قرن.. مياه صرف صحى بلا معالجة تضخها محطة «عرب أبو ساعد» فى ترعتين بالمركز

«غيطان» الصف.. كارثة عمرها ربع قرن.. مياه صرف صحى بلا معالجة تضخها محطة «عرب أبو ساعد» فى ترعتين بالمركز



لسنا أول من اكتشف الكارثة، فقد سبقنا كثيرون دون جدوي، فهل نكون من يضع لها «تتر» النهاية؟!.. منذ أكثر من 20 عاما، وبالتحديد فى عام 1992 جنوب حلوان، حيث تقع قرى مركز الصف، بدأ أول فصول «الكارثة» بتشغيل محطة معالجة للصرف الصحى باسم «محطة عرب أبو ساعد»، على أن تمر المياه المعالجة فى ترعة سميت باسم «ترعة الصف» لتكون مصدرا لرى الأراضى المحيطة بها على الجانبين بعد زراعتها بغابات شجرية، للاستفادة من أخشابها.


إلى هنا يبدو المشروع نموذجيا مكتمل الأركان.. الخبر السيئ هو أن الامور لم تجر كما كان مخططا لها، ففضلا عن مشاكل إنشائية عديدة فى موقع المحطة وتصميم الترعة؛ سنأتى على ذكرها بالتفصيل لاحقا، فإن المساحات المحيطة بالترعة لم تزرع بالأشجار الخشبية كما كان مقررا، بل تحولت إلى حقول تضم مختلف المحاصيل الزراعية التقليدية من خضر وفاكهة، تروى بمياه الصرف الصحي، لتجد طريقها بعد ذلك إلى أسواق الخضر الصغيرة فى قرى الصف وأطفيح، أو حتى أسواق الجملة الكبيرة المعروفة، ومن ثم الى بطون المصريين، وغنى عن الذكر شرح التبعات الصحية المتوقعة.


نحن الآن نسير وسط حقول المحاصيل الزراعية التى أثار حجم ثمارها دهشتنا: على أطراف الترعة، حيث توجد «طرومبات رفع المياه» تتجمع فقاعات الصابون والمنظفات بكثافة فى مشهد مقزز، لتشق طريقها فى قنوات الرى المخالفة داخل الأرض المزروعة. بحذاها سرنا إلى أن وصلنا إلى أرض مزروعة بالكرنب. لابد أن تلك المواد الكيماوية قد تشبعت بها ثماره. الغريب أن شكل المحاصيل الزراعية يبدو بهى اللون، شهى الطعم!


السر يخبرنا به عدد من المزارعين الذين التفوا حولنا بعد معرفتهم بهويتنا الصحفية لكنهم رفضوا ذكر أسمائهم. قال أحدهم: إن المياه هنا مشبعة بالمواد العضوية التى تغنيهم عن استعمال أى نوع من أنواع السماد، فضلا عن أن المزروعات تنمو بسرعة وبوفرة، وأضاف أحد خفراء وزارة الرى بالمنطقة ان الأهالى يصرون على الرى بالغمر!!. 


سألنا أحد المزارعين كيف تروى مزروعاتك بمياه المجاري؟! فكان رده: «أنا عمرى 25 سنة ومن ساعة ما وعيت وأنا أهلى بيزرعوا بالمية دى وده أكل عيشى الوحيد»: إذا لم تكن تخشى على صحة غيرك، ألا تخشى على نفسك؟ ، فلم نجد إجابة سوى هز الكتف وابتسامة مستسلمة، ثم استدرك آخر وكأنه يفحمنا برده :»إحنا طول عمرنا بناكل من الأرض دى وماحصلناش حاجة، واللى كاتبه ربنا هنشوفه! وبعدين هى الحكومة وفرت لنا مية حلوة واحنا قلنا لأ؟!» طلبنا منه أن يمد يده ليشرب من الماء فضحك قائلا: إنتى عايزانى أموت؟!.

أعلى الطريق الإقليمي، وقفنا بصحبة المهندس عمر حلمي- المدير العام لإدارة الرى بحلوان- نتأمل المساحات الشاسعة ذات اللون الأخضر «الزاهي» على مرمى البصر، بينما تجرى من أسفلنا مياه ترعتى الصف القديمة والجديدة الخارجة من محطة المعالجة. هالنا لون المياه شديد السواد فضلا عن رائحته الكريهة، بما يؤكد عدم تعرضها لأى نوع من أنواع المعالجة، وكأنها مياه صرف صحى «خام»، وها هى تغذى الحقول من خلال قنوات صغيرة شقها الأهالى بالمخالفة، لتروى المحاصيل التى يزرعونها، ما بين البطاطس والبصل والقمح والفلفل وغيرها بالإضافة إلى الخضراوات الورقية بأنواعها، فضلا عن البرسيم الذى تتغذى عليه المواشى التى ترعى فى الأرض، لتدر لبنا ملوثا ولحوما مسممة، وحتى تكمل اللوحة «المخيفة»؛ كانت أعمدة دخان مصانع الطوب الكثيفة تلوث خلفية المشهد!


وخلال جولتنا؛ كشف لنا المهندس عمر عن أنه من بين كل الترع فى مصر، فإن ترعة الصف القديمة هى الوحيدة التى لم تقم وزارة الرى بتصميمها أو المشاركة فى إنشائها، وإنما تم ذلك فى ثمانينات القرن الماضى، بمعرفة وزارة الإسكان بالتعاون مع الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة، وبعد الانتهاء منها، طلب من وزارة الرى استلام الترعة، لكنها رفضت بسبب اكتشاف عيوب إنشائية وفنية جسيمة، وبعد ضغط «سياسي» تسلمتها «الري»، لكن بشرط إصلاح عيوبها، وعلى أن تقوم وزارة الرى بإنشاء ترعة جديدة موازية لتلافى عيوب الترعة القديمة، واستيعاب كل كمية المياه المعالجة الخارجة من محطة الصرف.


من بين تلك المشاكل الإنشائية، كما يوضح المهندس عمر؛ أن الترعة لم تكن مبطنة كما ينبغي، فحدثت تسربات كثيرة من المياه إلى مسام التربة، فضلا عن الرشح المستمر حتى الان فى مواقع كثيرة، وتكون العديد من البرك، كما لم تكن الحوائط الخرسانية مطابقة للمواصفات ،فبمجرد انسياب المياه الى الترعة انهارت حوائطها، ومع ذلك استمر ضخ المياه فى الترعة.


الغريب أن الشركة التى قامت بتنفيذ مشروع الترعة هى نفسها التى أسند إليها إجراء الترميمات ! أما المشكلة الرئيسية، كما أخبرنا حلمى فتكمن فى موقع إنشاء المحطة، ومن ثم الترعة ومسارها، حيث توجد المحطة والترعة على ارتفاع 50 مترا فوق سطح الأرض (ما يوازى ارتفاع برج سكنى مكون من 17 طابقا) أى أن كل قرى الصف تقع أسفلها، الأمر الذى يعرض بيوت المواطنين لمخاطر الغرق بمياه «المجاري» فى حالة حدوث أى زيادة فى منسوب المياه لأى سبب، وقد حدث ذلك بالفعل.


ومن الناحية التصميمية، أوضح لنا مدير رى حلوان أن الترعة القديمة وهى بطول 52 كم؛ مقمسة إلى ثلاثة « أقسام»، الأول ينتهى عند الكيلو 24، وكان من المفترض أن يستقبل مياه الصرف المعالجة «معالجة ثنائية» لرى 18 ألف فدان مزروعة بغابات شجرية.


والثانى «من الكيلو 24 حتى الكيلو 45 وتضم مياه صرف معالجة مخلوطة بمياه النيل من ترعة الحاجر بواسطة محطة رفع غمازة «أ»، والمفترض أن تزرع الأراضى المحيطة بها بمحاصيل لا تؤكل كنباتات الزيوت العطرية والقطن والكتان وغيرها، أما القسم الثالث من الترعة فيبدأ من الكيلو 45 حتى الكيلو 52، وهو عبارة عن مياه نيل عذبة تماما تتم تغذيتها من محطة رفع غمازة «ب» وتزرع المساحات المحيطة بها بمحاصيل زراعية تقليدية، ليكون إجمالى المساحة المستهدفة زراعتها نحو 40 ألف فدان.


وما يزيد خطورة الوضع كما ينبه المهندس عمر أن سعة محطة المعالجة وهى 550 ألف متر مكعب فى اليوم، لا تكفى لاستيعاب مياه الصرف الصحى الواردة إليها بعد زيادة عدد سكان المنطقة، أى أنها تستقبل الفائض الذى يتجاوز 100 ألف متر مكعب دون معالجة نهائيا، وتصلنا تقارير دورية من مديرية الصحة بالصف تحذر من ارتفاع نسب المعادن الثقيلة بمياه الترعة عن النسب المسموح بها.


سألناه عن حدود مسئولية وزارة الرى فيما يتعلق بالترعتين الآن ، فقال إنها تنحصر فى تطهيرها من الحشائش والرواسب بشكل دورى وتدعيم جسورها. أما المياه التى تجرى بها فمسئولية شركة صرف القاهرة التابعة لوزارة الإسكان.


البرلمان هو الآخر أثار المشكلة منذ عشر سنوات، وفى العامين الأخيرين تقدم رضا البلتاجى -النائب عن دائرة حلوان- بطلب إحاطة فى ظل صمت أجهزة الحكومة المعنية عما يجرى من زراعة محاصيل غذائية بالمخالفة وريها بمياه الصرف الصحي، ورغم إقرار المسئولين له شخصيا بفداحة المشكلة ، إلا أن جهة واحدة لم تتخذ أى إجراء . يقول البلتاجي:» التقيت بوزير الزراعة السابق د.عبد المنعم البنا ،ووعد بتشكيل لجنة لمعاينة الوضع على الطبيعة، لكن لم ينفذ وعده، ثم تقدمت ومعى 21نائبا فى المجلس بطلب مناقشة مقدم لوزراء الزراعة والرى والإسكان والتنمية المحلية، لكن لم يحضر أحد منهم أو حتى من ينوب عنهم!


زيادة عدد السكان


كان لدينا عدة تساؤلات طرحناها على م /عادل حسن- رئيس شركة الصرف الصحى بالقاهرة- بخصوص المياه التى تجرى فى الترعة، فأوضح أن محطة عرب أبو ساعد عندما تم تشغيلها سنة 1992، وحتى عام 2004 كانت تعمل بشكل جيد، وتنتج مياها معالجة ثنائيا وفقا للمواصفات، إلا أنه بعد زيادة عدد السكان ومن ثم زيادة حجم المياه الواردة إلى المحطة والتى تزيد على طاقتها الاستيعابية آنذاك (350 الف متر مكعب/ اليوم) بدأت تسوء نوعية المياه الناتجة.


وبالتالى بدأ التفكير فى عمل توسيعات للمحطة لتصل طاقتها إلى 550 الف متر مكعب- وهى سعتها الحالية-، فتسلمها الجهاز التنفيذى بوزارة الاسكان بالكامل فى عام 2006 لتشغيلها وتنفيذ التوسعات. سألناه عن المشاكل الإنشائية فى تصميم الترعة والذى تم بمعرفة وزارة الاسكان، فنفى علاقة الوزارة بالأمر، وقال إن الرى هى التى صممت الترعة لكن التنفيذ كان بأموال من وزارة الاسكان.


وتابع المهندس عادل قائلا:«ظلت المحطة تحت إدارة الجهاز التنفيذى بوزارة الاسكان من عام 2006 حتى 2009، ثم تسلمتها شركة صرف القاهرة لتتولى تشغيلها، لكن كان لنا عدد كبير من الملاحظات السلبية، وكانت هناك مشاكل فى المعدات المستخدمة، وبعد خلاف مع الجهاز التنفيذى ، احتكمنا للجنة محايدة من أساتذة الجامعة، وانتهت الى نفس الملاحظات التى حددناها، وأيدت رأينا الفني، وبدأت الشركة التى أوكل إليها تنفيذ التوسعات بالمحطة، تصلح العيوب التى تسببت فيها، لكن لم يتم إصلاح كل شيء، وتراجعت حالة المحطة، فتم الاتفاق على أن تقوم شركة صرف القاهرة بتشغيلها ورفع كفاءتها، نظير أن نتسلم 250 مليون جنيه ، 50 مليونا من شركة «المقاولون العرب» و200 مليون من استثمارات الجهاز التنفيذي، وقد تسلمنا المحطة بالفعل أول نوفمبر الماضي، وأجرينا تطهيرا كاملا، إذ كانت مليئة بالرواسب والرمال نظرا لعدم تطهيرها منذ عام 2009.


حاليا أعلنا عن مناقصات لإحلال وتجديد بعض المهمات الميكانيكية. وعلى المدى القريب- خلال أربعة أشهر- سنحاول تحسين جودة معالجة المياه بطرق مؤقتة، الى أن ننتهى من الإصلاح الكامل واستبدال المعدات.


المهندس عادل أقر فعلا بزيادة كمية المياه الواردة إلى المحطة على طاقتها التصميمية حيث تصل إلى 650 الف متر مكعب فى اليوم، لكنه كشف عن مخطط مستقبلى لعمل توسعة فى طاقة المحطة الى مليون و100 ألف متر مكعب يوميا، وتم تخصيص قطعة أرض فى تقاطع الكريمات مع الطريق الإقليمى لعمل محطة جديدة لتغذى مزرعة خشبية. فتمنينا ألا يتكرر نفس السيناريو، فكان رده بأن ذلك مشروط بألا تترك مسألة الزراعة للأهالى بل تتم زراعتها بواسطة وزارة الزراعة.


على جانب آخر، استفسرنا من اللواء محمد حلمى - رئيس هيئة التنمية والتعمير الزراعية - عن سبب غيابهم عما يجرى من مخالفات فى تلك المساحة الخاضعة لولاية الهيئة، فأوضح أن تلك المساحات تزرع بمعرفة جمعيتى غمازة التعاونية الزراعية لاستصلاح وتعمير الأراضي (الكبرى والصغري)، بعد تعاقدهما مع الهيئة، لكن بعد ارتكابهما مخالفات جسيمة من بناء منشآت وقمائن طوب فضلا عن الزراعات المخالفة، فقد طلبت الهيئة منذ ثلاثة أشهر تقريبا من المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة، نقل ولاية تلك المساحة إلى محافظة الجيزة لتخضع لإشرافها المباشر.


ما تلقيناه من وعود "طيبة" من المسئولين، ليس ضمانا لانتهاء المشكلة وتطهير تلك الأراضى من محاصيلها الملوثة بالمجاري، فمن سبقنا للتنبيه إلى تلك الكارثة تلقوا وعودا مشابهة من المسئولين السابقين، ونخشى أن يرث المسئولون «اللاحقون» نفس الملف، إذ يبدو أن مرور ربع قرن غير كاف لإغلاقه!.


المركزى للمحاسبات: مثال بارز لإهدار المال العام وسوء التخطيط


كان الجهاز المركزى للمحاسبات قد نبه إلى «الكارثة» فى تقارير سنوية عديدة منذ أكثر من10 سنوات، جميعها أقر  بأن مشروع إنشاء ترعة الصف «مثال بارز لإهدار المال العام وسوء التخطيط بين وزارات الدولة وهيئاتها». فى تقرير له صدر فى عام 2015 ، كشف عن أن ما تم إنفاقه على إنشاء الترعة القديمة نحو 80,2 مليون جنيه، بينما بلغت تكاليف إصلاحها حتى عام 2014 نحو 187,5 مليون جنيه، وأرجع التقرير تفاقم مشاكل الترعة، إلى تأخر وزارة الرى فى استلامها لنحو 10 سنوات فى عام 2002  لوجود عيوب فنية بها، وبالتالى غياب جهة فنية مسئولة عنها.


وأكد التقرير أيضا أنه رغم الانتهاء من  إنشاء ترعة جديدة  بطول 24 كم فى مارس 2014، بتكلفة بلغت 60 مليون جنيه، وإصلاح الترعة القديمة فى المسافة من الكيلو 24 حتى الكيلو 52 بتمويل من هيئة التعمير والتنمية الزراعية، إلا أن المياه الموجودة فى ترعة الصف الجديدة لا تزال غير معالجة.


وأوصى الجهاز بتفعيل قرار وزير الزراعة رقم 1083 لسنة 2009 بشأن إزالة الزراعات المخالفة التى تم ريها بمياه الصرف الصحي، وحظر استخدام المياه إلا بعد معالجتها، على أن تستخدم فى زراعات غير غذائية كما كان مقررا، وتطبيق الجزاءات الرادعة على المخالفين.