عندما كانت المناضِلة، وخبيرة الزراعة الهندية "فاندانا شيفا"، تصرخ وتصدح بصوتها عالياً، فى ربوع الهند وفى العالم أجمع، مُحذّرة من خطر احتكار البذور، قائلة وبكلمات سوف يتردد صداها عبر التاريخ: (إنّ أكثر من مليار شخص حول العالم، يناضلون ضد عبودية البذور، عبودية المزارعين والمجتمع والحكومات، التي أصبحت خاضعة لهذه الشركات)، وللحقيقة لم تكن صرخة خبيرة الزراعة الهندية، ضد احتكار الشركات العالمية للبذور والتقاوى، هى الصيحة الأولى فى العالم، بل سبقتها فى مصر والعالم، تحذيرات وصرخات عديدة، ومنهم خبراء الزراعة والبيئة المصرية، أمثال الدكتور عبد السلام جمعه، "أبو القمح"، ورئيس مركز البحوث الزراعية الأسبق، وكذلك الدكتور أحمد مستجير، عميد كلية الزراعة، جامعة القاهرة الأسبق أيضا، والدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، عالم البيئة المصرى العملاق، ورئيس الاتحاد الدولي الأسبق لحفظ الطبيعة، عليهم جميعاً رحمة الله، هؤلاء وغيرهم، من العلماء والخبراء المُخلصين، فى الزراعة والبيئة الطبيعية، كانوا يشعرون بالخطر القادم، والخراب المُستحكم، الذى ستحدثه هذه الشركات فى العالم، نتيجة احتكار التقاوى والبذور، بعد سرقة أصولها الوراثية من دول العالم، وخاصة فى أفريقيا، وعلى وجه الخصوص، من مصر والوطن العربى.
شركات البذور والتقاوى العملاقة
فى مايو عام 2014م، تفجّرت قضية جمع ومصادرة البذور والتقاوى الزراعية من العالم، وخرجت إلى العلانية بشكل واضح وفجّ، وكانت البداية من فرنسا، لتنفرط بعدها حبات العُقد، وتتوالى الفضائح والكوارث في العالم، وتسفر بوجهها القبيح عن محاولات شركات غربية، وضع يدها على بذور الدنيا كلها، والدخول فى حرب ضد الإنسانية، بهدف إخضاع الشعوب واستعبادها، وتحقيق أرباح مادية هائلة تُقدّر بمليارات الدولارات، وكانت النتيجة الأوليّة، لهذه السياسة الجُهنميّة، هى ضياع وتراجع وتدنّى، الكثير من المحاصيل الوطنية، التى كانت تعتمد عليها العديد من الدول، كمحاصيل رئيسية استراتيجة، يتم إنتاج تقاويها وبذورها محليّاً ووطنيّاً، مثل القطن والقمح والفول والأرز والذرة وغيرها، وترتّب على ذلك أيضا، كوارث عديدة فى أنحاء العالم، كان من ضمنها، انتحار أكثر من 200 ألف مزارع هندى، بعد فشل زراعة القطن هناك، ولم يشفع للهند، أنها كانت ومازالت، المُختبر الأول لصناعة البذور المُعدّلة جينيّاً ووراثيّاً، من قبل الشركات الكبرى الـ 5 المُحتكرة للبذور، وهى "مونسانتو" Monsanto و"بايونير" Pioneer في الولايات المتحدة الأمريكية، و"ليماجران" Limagrain في فرنسا، و"سانجانتان" Syngenta في سويسرا، و"باير" Bayer في المانيا.
وهذه الشركات العملاقة، تمتلك نفوذاً كبيراً، ونشاطاً خفيّاً، تمكنت عن طريقه من إلزام بعض الدول، وخاصة في آسيا وإفريقيا من استصدار القوانين، التي تُكرّس لاحتكار هذه البذور، كما أصبحت الشركات تسيطر، على أكثر من 50% من البذور، المخصصة للزراعة فى العالم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى خروج تقارير"فرنسية – هندية"، تحدثت عن امتلاك هذه الشركات الـ 5 لحوالى 75% من البذور الزراعية في العالم حالياً، وأن البذور التي تباع في أوروبا اليوم مسجلة في "كاتالوجات" خاصة مع أسمائها وصفاتها، وبأسماء مالكيها.
وكشفت التقارير أيضا، أن هذه الشركات الـ 5 ، أصبحت تملك 6 آلاف نوع من البذور، وبالتالي فإن المزارعين فى أنحاء المعمورة، أصبحوا خاضعين لشراء هذه البذور المُعدّلة جينيّاّ، والغير قابلة للزراعة إلاّ مرّة واحدة فقط، وباتت عملية اقتطاع جزء من المحصول، لإعادة زراعته مرّة أخرى ــ كما كان يحدث عندنا فى مصر فى الماضى ــ ضرباً من الخيال ومن المستحيلات، لسبب بسيط وجُهنمىّ، وهو أنّ هذه البذور المُعدّلة وراثيّاً، من قبل هذه الشركات باتت عقيمة ولا تُزرع إلاّ لمرّة واحدة، والنتيجة هى ــ كما يحدث الآن ــ جعل المزارعين مجبرين، على شراء البذور المعدلة جينيّاً، والمُنتجَة بواسطة هذه الشركات.
البنك القومى للجينات والموارد الوراثية
كان من الحِكمة والعقل، والمنطق وحُسن التدبير، أن فَطِنت مصر لهذا النفق المُظلم، الذى تُساق إليه الزراعة المصرية، فكانت البداية، بوقف السطو على البذور والتقاوى فى الزراعة والبيئة المصرية، ثم تحصين عددٍ من المحاصيل، بجدار فولاذى، منعاً لاختلاطها أو سرقتها وهروبها خارج حدود المحروسة، بينما كانت الخطوة الثانية، هى إنشاء "البنك القومى للجينات والموارد الوراثية"، بمركز البحوث الزراعية بوزارة الزراعة، وقد أنشىء البنك عام 2003، وكان الهدف من إنشائه، جمع وحفظ وتوصيف وتوثيق عينات الأصول الوراثية، للمحاصيل الحقلية والبستانية، التى تم جمعها فى رحلات الجمع، من مختلف أقاليم مصر، حسب الأولويات الموضوعة، وكذلك المحاصيل التى تم استرجاعها، من برامج التربية والأقسام البحثية أو المراكز البحثية الدولية، كما يهدف إلى استرجاع الأصول الوراثية المصرية، الموجودة فى بنوك الجينات ومراكز البحوث الدولية، كمركز بحوث الأرز الدولى، والإيكاردا والبرنامج الأمريكى للموارد الوراثية، ومازالت تُجرى عمليات استكمال واستقبال عينات هذه الأصول الوراثية، علاوة على إعداد قاعدة بيانات للمصادر الوراثية، طبقاً للقواعد الدولية، التى أقرتها مراكز البحوث الدولية، وبنوك الجينات الخاصة بهذه المراكز، مع إنشاء "معشبة" تحتوى على ألفى عينة نباتية برية ومنزرعة، وكذلك حديقة لصون الأنواع النباتية النادرة الموجودة بالحدائق النباتية، وبعض الأنواع النباتية المصرية، بالإضافة إلى نباتات طبية وعطرية.
تقاوى المحاصيل الحقلية مصرية
وكانت وزارة الزراعة قد أكدت فى وقتٍ سابق، على أن الشركات، التى تعمل فى مجال استيراد التقاوى، لها دور كبير فى توفير التقاوى المطلوبة للزراعة، وخاصة فى زراعة الخُضار، وأشار الوزير، إلى أن نسبة 98 % من بذور المحاصيل الحقلية، يتم إنتاجها فى مصر، نتيجة الجهود العالية، لمعهد المحاصيل الحقلية، فى تسجيل التقاوى والأصناف، وهو عكس مايحدث فى معهد بحوث البساتين، حيث يتم إنتاج أقل من 2% فقط من بذور الخضار محلياً، ويتم استيراد الباقى من الخارج، وهذه مشكلة، لأنه فى ظل غياب منتج وطنى، من محاصيل الخضار، تقوم الشركات باستيراد التقاوى، ويكون فى تفاوت كبير فى الأسعار وهامش الربح.