يمثل القطاع الريفى فى مصر نحو 55% من عدد السكان مقابل 45% لسكان الحضر، ويستوعب القطاع الزراعى 33% من العمالة المصرية بشكل مباشر ومثل هذا العدد بشكل غير مباشر فى قطاعات بيع وتصنيع المنتجات الزراعية ومستلزمات القطاع الزراعى من بذور وأسمدة ومبيدات ومعدات ومخصبات زراعية، وبالتالى فالقطاع الزراعى يمثل الأغلبية من الشعب المصرى. وعلى الرغم من الصعوبات البالغة التى يواجهها هذا القطاع، فإنه يعمل وينتج فى صمت ويساهم فى الناتج المحلى المصرى بنحو 13% وهو ثلاثة أضعاف معدلات مشاركة القطاع الزراعى عالميا والتى لا تتجاوز 4% فقط وحتى أفريقيا والتى تصل إلى 12% وبالتالى فالقطاع الزراعى له الشكر على هذا الإنتاج والمأمول منه أن يضاعف من إنتاجيته بمساعدة الدولة فى المرحلة المقبلة لمواجهة الزيادة السكانية رغم صعوبات نقص المياه والاحترار العالمى وتراجع الزراعة المصرية عن ركاب الزراعة الحديثة عالميا.
الفلاحون أصبحوا يعانون بشدة هذه الأيام من ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار مستلزمات الإنتاج من بذور وأسمدة ومبيدات وعمالة ووقود وكهرباء، وفى نفس الوقت انخفاض أسعار منتجاتهم من الخضروات والفاكهة والمحاصيل الحقلية الاقتصادية من قمح وبنجر وقصب وذرة وأرز، وأصبحوا يشعرون بأنهم مسخرون لخدمة التجار والتخديم عليهم بلا رحمة ولا اعتبار لأهمية منتجهم الغذائى الذى يعول عليه جموع الشعب والبيت المصرى لأنه القطاع الوحيد المنتج للغذاء.
أحوال الفلاحين فى تراجع مستمر، وأملهم فى إصلاح الحال يبتعد كل يوم، وأصبحوا يأملون فى التقدير الملائم من الدولة وأن تجد خسائرهم من يوقفها وأن تعود الزراعة مهنة رابحة يقودها من يحسن التخطيط ويحدد المساحات الملائمة لكل محصول بدقة بما يضمن صالح الفلاح وصالح المستهلك وأن تراعى الدولة الفلاح كما تراعى التجار.
انتظر الفلاحون سعرا عادلا للقمح يماثل سعر ما تستورده الدولة من القمح فلم يجدوه وأصبح عائده لا يعادل عملا دؤوبا لمدة ستة أشهر ولا يوفر لا الحد الأدنى للأجور الذى حددته الدولة بألف ومائتى جنيه شهريا ولا الربحية المتوقعة من رأس المال بالعمل المرهق ليل نهار. فوزارة التموين ترى أن القمح المصرى الأبيض الذى ينتمى إلى الدرجة الأولى يعادل فى سعره ما تستورده من القمح الأحمر اللين للدرجة الثانية على الرغم من أنه يزيد 50 دولارا فى الطن عنه!، كما أنها تناست ما تتكبده من نفقات نقل بحرى وتفريغ فى الموانئ المصرية وتأمين ورسوم إدارية ثم نقل داخلى من الموانئ المصرية إلى جميع المحافظات السبعة وعشرين بخلاف القمح المصرى الذى يسلم للدولة موزعا على جميع المحافظات وهى تكاليف تصل إلى 50 دولارا أخرى للطن، ورجوت لو أن الدولة تقاسمت هذه التكاليف اللوجستية والتى تدفعها راضية عن استيراد القمح مع الفلاح المصرى تحفيزا له على الاستمرار فى زراعته والحفاظ على أرضه الزراعية دون تفريط أو بناء.
والغريب أن وزارة التموين راعت فقط السعر المعلن فى البورصة العالمية عند تسعير القمح على خلاف ما ينص الدستور وهو استلام المحاصيل الاستراتيجية من الفلاح بسعر مجز يحقق ربحا للفلاح، وهو النص الذى يحمى الدولة من تلاعب المصدرين والمضاربين الأجانب بأسعار القمح حتى تقلع بعض الدول عن زراعته أو تخفض مساحة زراعاته، وبعدها تعاود الأسعار الارتفاع بأضعاف مضاعفة، كما حدث فى عام 2008 حين وصل سعر طن القمح إلى 480 دولارا للطن بدلا من 200 دولار فقط قبل أزمة الغذاء العالمية. وقد سبق أن قدمنا أثناء عضويتنا فى لجنة القمح والحبوب بوزارة الزراعة تصورا لوزارة المالية بأن تسعير القمح المحلى ينبغى ألا يتأثر بانخفاض الأسعار العالمية حتى لا نقع فى فخ المضاربين بأسعار الحبوب فى العالم وأن الفلاح المصرى ينبغى أن يربح 50% على الأقل فوق ما أنفقه على زراعته، وهو ما ينبغى لوزارة التموين مراعاته عند تسعير القمح والقصب والبنجر وألا يكون تفكيرنا منصبا يوما ما على أن استيراد القمح أرخص من زراعته وإلا دفعنا الثمن غاليا بعد أن نتحول إلى دولة مستوردة صافية لكامل غذائها بسبب عدم تفهمنا لأهمية أن يربح الفلاح من زراعاته لا أن تربح الدولة ومصانعها فقط كما هو الحال فى صناعة السكر والذى لم يتم تخفيض أسعاره فى أسواقنا المحلية رغم انهيار أسعاره عالميا بسبب حرص الدولة على مكاسب مصانع السكر وتجاره وهو اتجاه ليس بالخاطئ، ولكن ينبغى أن يشمل أيضا تحقيق مكاسب للمزارعين بالشراكة مع المصانع وليس التجار فقط.
فالزراعة المصرية تحتاج إلى إعادة هيكلة ورسم سياسات زراعية جديدة، بهدف عودة الزراعة مهنة مربحة وتحقيق أعلى إنتاج من السلع الاستراتيجية التى نستوردها من القمح والذرة الصفراء للأعلاف وزيوت الصويا وعباد الشمس والفول والعدس والسكر والحمص وغيرها، بعد أن أصبحت الزراعة مهنة خاسرة والتمسك بها لا يوفى الفلاح حقه فى الحياة الكريمة. فبسبب غياب السياسات الزراعية والتخطيط الزراعى لا يجد الفلاح من ينصحه إلى الزراعات الأعلى ربحية، فنجد أن هناك إسرافا كبيرا فى المساحات المخصصة للخضروات والفاكهة تسببت فى خسارة كبيرة لمزارعى البصل والبطاطس والطماطم والثوم والموالح هذا العام بسبب زيادة المساحة المنزرعة عن احتياجات الأسواق المحلية والخارجية مما تسبب فى تراكم الديون على المزارعين. أما فلسفة دعم الأسمدة الكيميائية فغائبة تماما عن بعض المسؤولين والذين لا يدركون أن هذا الدعم فى صالح الدولة أولا والفلاح ثانيا. هذا الأمر الذى أوضحه تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة عن أهمية دعم الدول النامية والمستوردة للغذاء للأسمدة، موضحا أنه فى حال ارتفاع أسعار الأسمدة عن قدرات المزارعين الفقراء خاصة أصحاب ومستأجرى الحيازات الصغيرة واضطرارهم إلى إضافة نصف كميات الأسمدة المقررة فقط، فإن إنتاجية أراضيه سوف تتراجع بنسبة 30%، وفى حال عدم قدرته على شراء الأسمدة الكيميائية كليا وعدم إضافته لها، فإن إنتاجية محصوله تتراجع بنسبة 50%، وفى الحالتين ستضطر الدولة إلى زيادة استيرادها من السلع الاستراتيجية ما بين 30 و50% بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة مستنزفة عملتها الصعبة ومستوردة لما يمكن أن تنتجه محليا بأسعار أفضل وتكون هى الخاسر الأول من هذه المعادلة بالإضافة إلى تراجع الإنتاج الداخلى للخضروات والفاكهة وما يصاحبه من ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم والتأثير على الاقتصاد. نفس هذا التقرير ذكر أيضا أن زيادة الإنتاجية الزراعية المأمولة لن تتحقق إلا من هذه المزارع الصغيرة بعد تمكنهم من استخدام الأسمدة والتقاوى عالية الإنتاجية، إذا ما أصبحت أسعارها فى متناولهم.
وفى سياسات ترشيد استخدامات المياه قررت وزارة الرى تخفيض المساحة المخصصة لزراعات الأرز إلى نصف مثيلاتها فى العام الماضى وبما لن يتجاوز 700 ألف فدان فقط وهى المساحة التى قدرت زراعتها عند بناء السد العالى، ولكن عدد سكان مصر وقتها لم يكن يتجاوز 30 مليون نسمة فقط وتضاعف الآن لثلاثة أضعاف ونصف بما يتطلب زراعة ضعف هذه المساحة على الأقل من محصول الحبوب الوحيد الذى نحقق فيه الاكتفاء الذاتى ويمثل طبقا رئيسيا على المائدة المصرية، بالإضافة إلى كونه البديل الرئيسى للمكرونة والرغيف المصنعّين من القمح الذى نستورده، وبالتالى فإن تراجع مساحات زراعات الأرز سوف يؤدى إلى زيادة الطلب على المكرونة والرغيف، بما يضاعف وارداتنا من القمح، بالإضافة إلى استيرادنا كميات كبيرة من الأرز بالأسعار العالمية وبنوعية جربناها، ولم تتماشَ مع نمط الاستهلاك للمواطنين الذين تعودوا على الأرز المصرى الفاخر. يضاف إلى ذلك أن الأرز أصبح هو البديل الوحيد لفيضان النيل والذى توقف بعد السد العالى وأصبح الفلاح يعول على زراعاته فى تجديد شباب أرضه وغسيل ما بها من تراكمات الأملاح والتلوث والأسمدة والمبيدات والحفاظ عليها من التدهور والتملح، فى ظل إعادة استخدام كميات كبيرة من مياه الصرف الزراعى ذات النوعية المتدنية فى أراضى الدلتا وما يصل إليها من نشع مياه البحر المتوسط سواء للأراضى الزراعية أو للمياه السطحية الجوفية والتى تملح كل ما يعلوها من ترب، وبالتالى فإن الحكم هنا على زراعات الأرز عن كون المياه تذهب فى مكانها الصحيح أم هى مهدرة، خاصة أنها تعطى عائدا اقتصاديا مميزا للفلاح وتحافظ على أرضه، كما تحافظ على أراضى الدلتا التى تعتبر رأس مال مصر الزراعية والتى تنتج 72% من إنتاجنا الزراعى، ويعيش عليها 55% من السكان.
الأمر لم يتوقف عند حظر الدولة زراعة الأرز والذى قد نتفهمه فى ظل الظروف الحالية لنقص المياه، ولكن فى عدم توفيرها للبديل المربح الذى يمكن للفلاح أن يزرعه ويجد المشترى والسعر المناسب لإنتاجه. فالموسم الصيفى أصبح لا يضم إلا زراعات الأرز ثم القطن والتى تدهورت زراعاته بسبب صعوبة تسويق ما نزرعه من قطن طويل التيلة بسبب تراجع أسواقه بشدة بعد أن أصبح الأثرياء والفقراء يرتدون الجينز والتى شيرت والكاجوال المصنعة من القطن قصير التيلة وتراجعت زراعاته عن 190 ألف فدان فى الموسم الماضى ولن تتحسن هذا العام بسبب عدم إعلان وزارة الزراعة عن السعر الاسترشادى للقطن قبل زراعته، وبالتالى تخوف المزارعون من تكرار خسائر الأعوام السابقة.
يأتى ثالث المحاصيل الصيفية وهو الذرة والتى يزرعها أغلب المزارعين من أجل توفير علف أخضر لمواشيه كبديل للبرسيم الشتوى، وبالتالى يعتمدون عليه كدراوة وليس كذرة شامية والتى لم يعد لها سوقا رائجة منذ أن أوقفت وزارة التموين استلامها للخلط مع القمح لإنتاج الرغيف البلدى، من أجل توفير 20% من وارداتنا من القمح واستبداله بالذرة الأرخص والمنتجة محليا بما يقلل الضغط على العملات الأجنبية. والغريب فى الأمر وفى بلد يستورد غذاءه إعلان وزارة الزراعة على صفحتها الرسمية فى العامين الماضيين بأن المزارعين يتركون أراضيهم بورا فى الموسم الصيفى دون زراعة بمساحات تتراوح بين 3 و4 ملايين فدان فى بلد يستورد 60% من أغذيته الرئيسية ومنها محصولان صيفيان يمثلان العبء الأكبر فى الاستيراد وهما الذرة الصفراء للأعلاف التى تمثل المكون الرئيسى للأعلاف الداجنة والحيوانية وبالتالى تتحكم فى أسعار البيض والدجاج واللحوم الحمراء والزبدة وغيرها، ثم الزيوت النباتية للطعام المستخلصة من فول الصويا وعباد الشمس والتى تسمح المساحة التى يتركها المزارعون بورا لتحقيق قدر كبير من الإكتفاء الذاتى منهما بالإضافة إلى توفير إحتياجات الإعلاف من الكسبة الناتجة عن عصير البذور الزيتية وتوفير إحتياجات مصنعات اللحوم والتى يستورد كسبة الصويا بأسعار مرتفعة رغم إمكانية وسهولة زراعتها محليا وبإنتاجية مرتفعة وكل ما تتطلبه أن تتعاقد مصانع الزيوت العاملة فى مصر والتى تتجاوز 16 مصنعا حاليا منها ستة لقطاع الأعمال العام التابع للدولة، مع المزارعين على توريد كامل إنتاجهم من بذور الصويا والعباد بسعر مرض، وفى النهاية تستوعب السوق المصرية أى إنتاج من بذور الزيوت ومعها الذرة الصفراء والتى يمكن أيضا توريدها للخلط مع القمح وتقليل استيراده.
الغريب فى الأمر أن نفس الوزارات التى تسعى إلى تخفيض زراعات الأرز والموز (البعض يسأل هنا هل سيتم تقليع بعض مزارع الموز الحالية؟!) هى نفسها التى تسعى إلى زيادة المساحة المنزرعة بالقطن طويل التيلة والذى يزيد استهلاكه من المياه عن الأرز!، وهى نفسها أيضا التى قررت التوسع فى إنتاج الدواجن وتربية العجول والتى تستهلك مياها مضاعفة لاستهلاك الأرز والموز ولا تحافظ على التربة وخصوبتها مثلما يفعل الأرز. ونعتقد بأن المرحلة القادمة لإعادة تخطيط السياسات الزراعية تحتاج إلى زراعة أربعة ملايين فدان صيفا مناصفة بين الذرة ومحاصيل الزيوت ومعها نصف مليون فدان فقط من القطن قصير ومتوسط التيلة الذى يناسبه مناخ محافظات الصعيد لتوفير احتياجات مصانعنا للنسيج والغزول من الأقطان قصيرة التيلة والتى تستورده حاليا، وأن تقتصر زراعات القطن طويل التيلة على بعض محافظات الدلتا وطبقا لتعاقداتنا المسبقة على تصديره وطلب السوق العالمية منه. ومازلت أرى أن زراعة مليون ونصف فدان بالأرز لها أهميته القصوى للحفاظ على أراضى الدلتا خاصة أن أغلب زراعاته تعتمد على مياه المصارف الزراعية وليس الترع لأنه محصول متحمل لنوعيات المياه الفقيرة، كما أن تراجع زراعاة الأرز سوق تقلل من حجم مياه المصارف الزراعية والتى تعتمد وزارة الرى على إعادة استخدام نحو 10 مليارات متر مكعب سنويا فى الرى لتقليل الفجوة المائية المصرية العميقة.