تعود أوجاع القرية المصرية إلى أواسط القرن العشرين، أى مع التحول من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى وتغير استراتيجية الدولة من أن مصر «دولة زراعية» إلى «دوله صناعية» قادرة على التصنيع من «الإبرة للصاروخ». ومع هذا التغير الاستراتيجى المفاجئ صار شعار «الأرض لمن يزرعها» وذلك فى محاولة لترضية الفلاح.. فاختلطت المفاهيم بين زراعة الأرض وفلاحتها وتضخم مفهوم خاطئ على أن مستثمر أمواله فى زراعه الأرض- كبيراً أو صغيراً- ليس مزارعاً، وأن المزارع هو من «يعانى من الفقر والجهل والمرض» وما عداه فهو إقطاعى يشارك فى فساد الحكم!!!
وبناء على الفلسفة الجديدة لأيديولوجية ذلك العصر صار توزيع وتفتيت الملكيات أو للدقة «الإقطاعيات» على صغار الفلاحين بمعدل خمسة أفدنة لكل فلاح معدم وغير قادر، فى الأغلب الأعم، على تمويل هذه المنحة السخية لزراعتها فاختصر العمليات الزراعية الضرورية الواجبة، مما أدى إلى تهاوى الإنتاج الزراعى. ومن سخريات القدر أن التفتيت المتعمد، بحسن نيه طبعاً، ظهرت آثاره المدمرة بعد طول وقت أى بعد وفاة الفلاح وأيلولة الخمسة أفدنة للورثة بمساحات صغيرة لا تشجع على الاستثمار الزراعى، فصار البناء على تلك الرقع المساحية أو تبويرها أو بيع التربة السطحية لصناعة الطوب الأحمر هو نمط عام أدى إلى تغيرات سيكولوجية بطول الوقت للأولاد والأحفاد وأثر على طموحاتهم وتطلعاتهم، وأثرى محاولات الهجرة غير الشرعية إلى البلاد الأوروبية المجاورة أو الهجرة الداخلية إلى العاصمة وتفريغ القرية من شبابها وندرة الأيدى العاملة الزراعية مع قصور إمكانات أو غياب الميكنة الزراعية. ومع التغيرات الديموجرافية السابقة فإن علاج أوجاع القرية المصرية يستوجب إجراء بعض التعديلات الإدارية القانونية الأمنية والفنية للارتقاء بقرى مصر تحت شعار «القرية العصرية»، ويقترح فى هذا الشأن الآتى:
أحكام أمن القرية بالتوسع فى نظام العموديات بدلاً من إقامة نقاط شرطة بدائية يرأسها فرد شرطة خالى الوفاض من السلاح والشعبية وغير قادر على الاندماج فى المجتمع حوله وخائف من مواجهة الأعيان وحوارييهم ضماناً للسلامة الشخصية، مما قد يستدعى تقديم بعض التنازلات الأمنية.
إن العودة إلى نظام العموديات «وشيخ الغفر» يساعد على استقرار الأمن وضبط الهاربين والمتهربين من الأحكام ومثيرى الفتن الطائفية قبل اشتعالها!!!
إن نظام العموديات Mayors معمول به فى كثير من دول العالم المتحضر فهو صمام أمان يحافظ على الموروثات الاجتماعية والأمنية والثقافية فى مسقط رأسه. إنشاء نقابات عمالة زراعية على مستوى المراكز يعتبر من الضرورات لتوفير فرص العمل وتقليص الهجرة غير الشرعية والاستغناء عن وسطاء التشغيل المبالغين فى الأتعاب والمطالبة بحقوق الأعضاء.
يمكن النظر فى تدريب خريجى التعليم المتوسط أو الفنى بعد تدريبه للعمل كمعلمين ما قبل التعليم الابتدائى من سكان نفس المنطقة أو القرية، تعويضا لدور كتاب القرية المفقود وبديلاً لجهود محو الأمية المشكوك فى جدواها لتحسين قدرات التلميذ لغوياً نطقاً وكتابة تحت الإشراف المباشر وعلى مسؤولية عمدة القرية.. عودة العموديات من ضرورات التطوير لكافة الأنشطة. إن مشكله انتقال أطفال المدارس القروية، بل ومدرسيهم، للوصول إلى مدارسهم فى القرى المجاورة أو القرى البعيدة دون وسائل نقل، بل سيراً على الأقدام، أصبحت من أهم عوامل الهروب من التعليم وتدبير وسائل انتقال بسيطة غير مكلفة لحل هذه المشكلة عن طريق تعاونيات القرية أمر ميسور. إن التوسع غير المدروس فى إنشاء الوحدات الصحية الريفية بتكليف عدد من شباب الأطباء الجدد للعمل بهذه الوحدات بما لا يتناسب مع طموحاتهم مدعاة لممارسه كافة أنواع التهرب من الأداء نتج عنهما إغلاق هذه الوحدات أو صورية وجودها. إن التفكير فى إنشاء معاهد لتخريج «مساعدى الأطباء» بعد دراسة طبية متوسطة مكثفة وموازية لمعاهد التمريض هو أحد الحلول لمشاكل الوحدات الصحية المغلقة، وهو نظام شبيه بنظام «الطبيب الحافى» فى بعض الدول الشيوعية ذات الأعداد السكانية الكثيفة، لينهى المشكلات الطبية الضرورية فى مهدها، ويحيل الحالات التى تتجاوز قدراته إلى طبيب المركز الإخصائى. إن تعاقب توسيع الأحوزة العمرانية لتتناسب مع الزيادة السكانية فى القرى قد يكون من العوامل المشجعة للبناء على الأرض الزراعية، ولوقف هذا الباب الخلفى لإهدار الأرض الزراعية يكون بإصدار كود للمبانى الريفية بقانون يسمح بالارتفاع للمبانى القائمة حسب الأصول الهندسية أو الهدم وإعادة البناء لغير المناسب منها، وذلك حلاً لمشكلة إسكان الزيادة الطبيعية للشباب وتشديداً لعقوبات البناء وخارج الكتلة السكنية. إن مشكله التلوث البيئى والصرف الصحى والتخلص من المادة العضوية وملوثاتها يستلزم التفكير فى حلول غير تقليدية مثل التوسع فى إنشاء مخمرات البيوجاز، حيث يوفر طاقة نظيفة للاستعمال المنزلى ويقضى على مشكلة إنشاء شبكات الصرف الصحى، ولدينا فى مركز البحوث الزراعية كوادر متخصصة فى تكنولوجيا البيوجاز والذى يجب أن يكون عنصراً من عناصر كود القرية. إن مشكلة انقطاع التيار الكهربائى وضعف الشبكات فى بعض القرى قد يعجل من الحاجة للاعتماد على الطاقة الشمسية، توفيراً لنفقات إنشاء الشبكات التقليدية المكلفة، خصوصاً فى عصر الإلكترونيات والتعليم عن بعد، وهذا يستلزم بالتبعية إعداد كوادر هندسية متخصصة فى صيانة تلك الشبكات. عودة التزام وزارة الزراعة بالتدخل فى نشاط الفلاح الزراعى وغض النظر عن سياسة إطلاق حريه المزارع حسب الاتفاقات الدولية التى وقعتها مصر وبذلك يمكن العودة إلى الدورة الزراعية والتجميع الزراعى والتكثيف الزراعى والتسويق التعاونى وغيرها، وقد قامت بعض الدول بالتخلص من ارتباطات العولمة والجات وعدم اعتراض سريان التجارة.
التحذير من الرى بمياه مجارى المدن دون معالجة حقيقية، والاهتمام بمشاريع الصرف المغطى، أو البحث عن وسائل أخرى للصرف الزراعى المعالج.
كل ما سبق هو حزمة من الأوجاع التى أمكن حصرها وميسورة الحل... وللموضوع بقيه لمناقشة ما عداها. والله الموفق.