العبور الآمن لأرض الرخام والملح

العبور الآمن لأرض الرخام والملح

طريق سيوة ــ مطروح يودع الأحزان .. و«الواحة» تستعد للتنمية بشريان جديد

مطالب باستثناء المناطق النائية من غلق باب التقنين

ليس من المعقول أن تكون لديك أراض بكر.. وآبار مياه جوفية نقية .. ومناجم لرخام من أفخم الأنواع .. ومسطحات طبيعية غنية بالملح الصخرى ذى الشهرة العالمية .. ورمال ذهبية تمتص أوجاع قاصدى السياحة العلاجية؛ ثم يكون المرور من وإلى ذلك، رحلة خطيرة تتساوى فيها ـ تقريبا ـ احتمالات التعرض لحادث مع احتمالات النجاة والوصول الآمن، فعلى مدى عشرات السنوات كنا مستسلمين للواقع السيئ لطريق سيوة ـ مطروح، الذى كان يئن تارة من ضغط حركة شاحنات النقل الثقيل، وأخرى من الظروف المناخية الصحراوية القاسية، حتى تم اتخاذ القرار الجرئ بأن ندع جانبا هذا الطريق، وأن نهجر هذا «الأسفلت» الذى كثيرا ما خضبته دماء ضحايا المسافرين، إلى آخر «خرسانى» من نوع جديد، يتفادى العيوب الفنية، ويتحمل كل الأعباء الحالية، ويكون قادرا كذلك على مسايرة مستجدات التوسع والتنمية المستقبلية.


 


قبل أسابيع قليلة، كنا هناك أنا وزميلى المصور، مررنا بسيارة الأهرام على الطريق القديم، الذى رغم خضوعه لصيانة مستمرة، إلا أنه بدا كأنه يلفظ أنفاسه، هكذا وصف لنا بعض أهالى سيوة طريقهم الممتد إلى محافظة مطروح، الذى كان سببا فى عشرات الحوادث التى تبرعوا بسرد تفاصيلها المروعة، والحكايات المؤلمة لأبطالها، فهذه طبيبة بشرية بمستشفى سيوة المركزى، انفصل رأسها عن جسدها بسبب ارتطام الأوتوبيس الذى كانت تستقله بشاحنة عملاقة تنقل أطنانا من الملح الصخرى، وهو نفس الحادث الذى تسبب فى أن يلقى شاب يعمل «شيفا» بإحدى القرى السياحية مصرعه، قبل زواجه بأيام قليلة، كما استدعى الأهالى، حادثا آخر لم يستطيعوا – على حد قولهم - محو مشاهده من ذاكرتهم، على الرغم من مرور عامين تقريبا عليه، ربما لكثرة عدد الضحايا الذين تناثرت أجسادهم وقتهاعلى الطريق ما بين قتلى ومصابين بلغ عددهم 23 شخصا، وكان السبب أيضا تصادم حافلة ركاب مع عربة نقل، ولأن المسلسل السخيف لتلك الحوادث لا يتوقف، فقبل أشهر قليلة تسبب هذا الطريق أيضا فى تحول حفل زفاف إلى مأتم بعد وفاة وإصابة 19 شخصا بينهم أطفال من أهالى العروسين فى رحلة نقل «شوار» العروس، وهكذا ووفقا لروايات الأهالى فمنذ عشرات السنين .. لا يمر عام دون أحزان، فحركة السفر على هذا الطريق لا تهدأ ما بين طلبة علم يقصدون جامعة الاسكندرية، أو إحدى كليات مطروح، ورواد لرحلات السفارى، وراغبى السياحة العلاجية من المصريين والسائحين من جنسيات مختلفة، فضلا عن حركة نقل البضائع التى تتناسب طرديا مع ما تشهده تلك الواحة، فى السنوات الأخيرة من نقلة زراعية وعمرانية ونمو سريع بدأ يتضاعف، وكما يقول عصام عبدالغنى، رئيس مجلس ومدينة سيوة أن المدينة بدأت نهضتها العمرانية والزراعية بتوسعات كبيرة فى الاستثمار سواء المحجرى أو الزراعى، وهو ما يعمل على تشجيعه اللواء خالد شعيب محافظ مطروح، بتوفير كل الدعم والتسهيلات وابراز نقاط الجذب للاستثمار فى سيوة، والتعاون مع جميع أجهزة الدولة، مشيرا إلى تضاعف الانتاج الزراعى من البلح والزيتون والرمان، وزيادة حركة النقل الثقيل حاملة مع هذه المنتجات الزراعية ما يزيد على مليونى طن ملح تصدر إلى أوروبا، فضلا عن المياه المعدنية المعبأة من آبار وعيون سيوة.


ومن المتوقع - يضيف عبدالغنى – أن يتم استصلاح ما يزيد على 40 ألف فدان من قبل مستثمرين توافدوا على الواحة، منها 15 ألف فدان تسلمتها إحدى الشركات على طريق سيوة – الجارة.


الثروات المهدرة


مع اهتمام الدولة أخيرا بمنطقة واحة سيوة وبدء تعظيم فرص الاستثمار هناك، لتنميتها زراعيا وصناعيا، لم يعد مقبولا كما يقول اللواء خالد شعيب محافظ مطروح، استمرار وجود الطريق القديم كمصدر للخطر على حياة الأفراد وسبب فى إهلاك الثروات المتمثلة فى السيارات وحمولاتها نتيجة سوء حالته وتدهوره وعدم ملاءمته سواء من حيث الاتساع، أو المتانة للحركة الحالية عليه، مشيرا إلى أنه على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، شهد هذا الطريق 34 حادثا أدت إلى مصرع واصابة 118 مواطنا، ولهذا يؤكد اللواء خالد شعيب، أنه كان من الضرورى البحث عن شريان بديل يُراعى فيه تطبيق كل معايير السلامة والأمان، ويتحمل تزايد الحركة من وسائل النقل المختلفة وتزايد الحمولات، ويحفظ أرواح العابرين عليه من التعرض لحوادث كما كان يحدث سابقا ويكون مشجعا لحدوث التنمية على جانبيه، باعتبار الواحة من أكثر المناطق جذبا للاستثمار والتنمية، مشيرا إلى اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسى، بدعم سيوة فى كل مجالات التنمية بما يحقق الاستفادة من مواردها المتاحة، خاصة أنه يمثل من ناحية أخرى أكبر مشروع للرصف الخرسانى فى الصحراء الغربية.





سيارة إسعاف لم تسلم من حوادث الطريق القديم

عمر افتراضى أعلى


عندما نتطرق للمشروعات القومية، والتنمية العمرانية خاصة فى المناطق النائية والمحافظات الحدودية، لابد أن يُشار إلى الجهاز المركزى للتعمير بما له من أياد بيضاء وانجازات ملموسة منذ عقود على مناطق كثيرة بصحراء مصر، اللواء محمود نصار رئيس الجهاز أكد الحرص على إنشاء طريق متميز بعمر افتراضى لفترة أعلى بكثير لا تقل عن 25 عاما، بجودة عالية دون الاحتياج الى صيانات دائمة أو ترميم مكلف، كما يحدث عادة بالنسبة للطرق الأسفلتية خصوصا تلك الممتدة فى مناطق الصحراء الغربية، مؤكدا أنه تمت دراسة جميع العيوب الفنية فى الطريق القديم، للعمل على تلافيها بالكامل قبل تخطيط وتصميم هذا الطريق الحيوى، وذلك من خلال الاستعانة بأكبر مكاتب التصميمات والاستشارات الهندسية فى مصر، موضحا أن عرض الطريق الجديد، الذى يبلغ 12 مترا، وتخصيص حارة ضمن ثلاث حارات للنقل الثقيل، سيكون من أهم عوامل القضاء على تلك الحوادث المتكررة، وقال إنه تم تقسيم العمل بالطريق على مراحل، بدءا بالمناطق الأكثر خطورة، وفقا لتكرار وقوع حوادث بها، وكذلك تقسيم الأعمال على أكبر عدد من الشركات لتوسيع دائرة التشغيل ولضمان الجودة بالتنافس، وفى نفس الوقت لانجاز الأعمال بأسرع وقت ممكن مع مراعاة مراقبة الجودة بدقة، وهو مايتم بالتنسيق مع الهيئة العامة للطرق والكبارى باعتبارها جهة الولاية والتشغيل، مع عدم تجاهل كذلك شركات المقاولين المحليين من أبناء المحافظة، وإعطائهم فرصة للعمل بمرحلة ماقبل تنفيذ الجسر الترابى وطبقة الأساس.


نقل الملح والرخام


الرصف الخرسانى للطرق فى مصر ربما لا يكون معهودا، لارتفاع تكلفته، لكن حسبما يؤكد اللواء آمون مرتضى رئيس جهاز تعمير الساحل الشمالى الغربى وسيوة فإن تكلفة طريق سيوة - مطروح التى تصل لنحو 2٫5 مليار جنيه، لا تعتبر باهظة مقارنة بما يقدمه هذا الطريق من حماية لاقتصاد الواحة ودعم لتنميتها، بالإضافة للحفاظ على أرواح المسافرين، ويوضح اللواء نصار أن الكثيرين لا يعلمون أن الطرق الصحراوية تحتاج لهذا النوع من الرصف، كى تصمد فى المناخ الصحراوى وتقلباته، مابين شمس وحرارة عالية، وأمطار وسيول، فضلا عن تأثرها بالأوزان الثقيلة ولهذا كان القرار برصف طريق سيوة – مطروح رصفا خرسانيا لأول مرة فى تاريخ المنطقة الغربية بمصر، لتحمل هذه الأوزان والأحمال وضمان جودة الطريق لأطول فترة زمنية، وللمحافظة أيضا على تأمين حركة سيارات النقل الثقيل الحاملة للمنتجات الزراعية، والرخام الذى تم اكتشافه، وكذلك انتاج شركات المياه المعبأة، فضلا عن الملح الصخرى، حيث يتم نقل ما لا يقل عن 200 ألف طن ملح سنويا.





ويوضح اللواء آمون أنه تم تقسيم العمل فى الطريق الى 6 قطاعات كل قطاع بطول 50 كم بتكلفة 420 مليون جنيه، وبدأنا العمل من منطقة الكيلو 150 عند «بير النص» وحتى الكيلو 100 باتجاه سيوة وهى المنطقة الخطرة التى كانت تكثر عليها الحوادث والتى من المقرر أن تنتهى بنهاية العام الحالى، مضيفا انه تمت مراعاة أفضل جودة للرصف بداية من طبقة الأساس والسن حيث تتم مراقبة الخامات والأعمال التى تقوم بها الشركات المنفذة، وفقا للاشتراطات القياسية وحسب الكود المصرى، فضلا عن مراعاة التصميم الذى أعده الدكتور محمود سعيد، استشارى الطرق، لمنسوب الأرض الطبيعية، بحيث يمنع استقرار مياه الأمطار، فوق الطريق حفاظا على جودته وضمان تحمله حسب العمر الافتراضى مع عمل طبقات بعرض 4 أمتار على جانبى الطرق.


ومن جانبه يؤيد الدكتور عبدالله أبوخضرة أستاذ الطرق والمرور بكلية الهندسة جامعة بنى سويف، فكرة الاتجاه نحو الطرق الخرسانية فى المناطق الصحراوية، مؤكدا أنها الأصلح لتلافيها عيوب المناخ القارى، بصفة خاصة، ولنحو 19 عيبا من عيوب الرصف الأسفلتى بصفة عامة، ولطول أعمارها الافتراضية وإمكان صيانتها بتكلفة أقل كثيرا من صيانة وتشغيل الرصف المرن «الأسفلتى» الذى تبلغ تكلفة تشغيله وصيانته 60% من اجمالى تكلفة الإنشاء، فى حين أن «الخرسانى» لا تتجاوز النسبة فى أكثر الأحوال 20%، موضحا أن التباين الحاد فى درجات الحرارة فى مثل هذه المناطق الصحراوية، ما بين برودة شديدة وحرارة حارقة يتسبب بظهور شروخ بلوكية نتيجة تمدد وانكماش الخلطة الأسفلتية وتحلل ذرات سطح الرصف وتسرب مياه الأمطار للطبقات السفلى، وبالتالى انهيار الطريق، عكس الرصف الخرسانى القادر على التمدد والانكماش، كما أن تركيبة مواد الخلطة فيه تحول دون وصول مياه الأمطار إلى الطبقات السفلى.


«مونة» مضمونة


لم نكن لننهى جولتنا دون أن نشهد بأنفسنا مشاهد متقطعة من العمل الشاق والدءوب فى هذا الشريان الحيوى المهم، وتحت درجة حرارة عالية وفى أحد مواقع الرصف، استمعنا إلى المهندس محمد عبدالنبى دياب، مدير منطقة تعمير سيوة والمختص بفرش الخرسانة على الطريق، وهو يشير بيديه إلى طبقتى السن والأساس، قائلا: نستخدم هنا أحدث معدات الرصف الخرسانى لأول مرة فى الصحراء الغربية، حيث تُعبأ المونة بعد خلطها بنسب دقيقة جدا من السن والرمل بأعلى جودة.


مشيرا إلى أن جهاز التعمير يدقق جيدا فى المواد المستخدمة ويشترط خلوها من نسب الرطوبة، حيث لا يُسمح بإضافة أى مواد محجرية تستخدم فى الرصف إلا بعد اختبار معملى لها بكلية الهندسة، ولم تكن تلك المشاهدة الواقعية وكلام المسئولين فقط دافعنا للتفاؤل بالطريق الجديد، بل كانت رؤيتنا للمهندستين: هدير رجب وزميلتها هيلانة صبحى، كوجوه شابة من الكفاءات الهندسية حديثى التخرج، تقفان للعمل والإشراف بكل حماس واجتهاد، يبدآن به رحلتهما العملية، كما يبدأ هذا الطريق رحلته الآمنة الواعدة بكل الخير.


«الروتين» يعطل أحلام الشباب على رمال سيوة


جهاز التعمير: دائرى الواحة لتأمين السائحين وتشجيع «السفارى»


اتساع مساحات البحيرات الملحية التى تزيد ملوحتها بمقدار خمسة أضعاف على ملوحة مياه البحر إلى 55 ألف فدان، بسبب تفاقم أزمة تصريف مياه الآبار فى سيوة، لم يكن كله خيرا، فصحيح أنه حقق إنتاجا عاليا من الملح الصخرى ذى الجودة العالية، إلا أنه على جانب آخر تسبب فى تبوير مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية ومنع ضم أراض جديدة للاستصلاح والإنتاج، حيث فشلت كل الحلول التى وضعت باستثناء الحل الأخير الذى وضعه ونفذه جهاز تعمير الساحل الشمالى الغربى وسيوة.


حيث أسهم فى الحد من تسرب مياه الصرف وفتح آفاقا غير تقليدية لتنمية الواحة وزيادة رقعتها الزراعية، من خلال إنشاء طرق ومحاور مرورية جديدة حول الكثبان الرملية التى تحيط بالواحة، .. مزيد من الشرح فى كلام اللواء آمون مرتضى رئيس جهاز تعمير الساحل الشمالى الغربى وسيوة قائلا: إن هذه المحاور الجديدة هدفها تشجيع تنمية الواحة زراعيا وصناعيا وسياحيا، وقد راعينا الاقتراب من مناطق التزحلق على الرمال لدعم سياحة السفارى فى سيوة مما يسهم فى خلق مناطق تخييم سياحية جديدة مع توفير فرص الأمان للسائحين فى حالة حدوث أى مشكلة أو حادثة، كما تتيح الفرصة أمام العاملين فى قطاع السياحة للوصول إلى مناطق الترفيه وزيادة عدد المشتغلين فى هذا القطاع الحيوى، موضحا أنه سيتم الانتهاء من هذه الطرق التى تمتد لنحو 25 كيلومترا بتكلفة 65 مليون جنيه خلال ثلاثة أشهر، وسيكون لها أثر كبير بالنسبة لزيادة الرقعة الزراعية وبالتالى الإنتاج الزراعى لمعدلات غير مسبوقة.


انطلقنا من منطقة الشحايم التى ظهر فيها الطريق كما الثعبان الأسود الملتوى على رمل أصفر حول الواحة، لنبدأ جولة بصحبة كل من مدير عام منطقة تعمير سيوة المهندس إبراهيم حسنى، والجيولوجى إبراهيم عبدالعال لنتأكد من أنه تمت مراعاة ترك أماكن تسمح باستصلاح أكبر قدر من الأراضى، بعيدا عن مشكلات الأراضى القريبة من البحيرات الملحية التى بارت نتيجة زيادة الملوحة فى التربة واحتراق الزراعات المنتجة، كما يتيح الاستفادة بالأماكن والأراضى الجديدة بدءا من منطقة الشحا