أتمنى أن يصل هذا المقال إلى كبار المسئولين، وأن تخضع كل الحقائق الواردة فيه إلى نظرة متأنية قبل اتخاذ أى قرار بشأن زراعة وصناعة وتصدير زيتون المائدة وزيت الزيتون، حيث احتلت مصر (طبقاً لبيانات المجلس الدولى للزيتون) المركز الثانى عالمياً -بعد إسبانيا- فى الإنتاج، ورغم ذلك طرأت أمور من شأنها تخريب هذا الإنجاز، ويحاول الآن مجموعة مستثمرين، لا يزيد عددهم على مائة شخص، تحقيق مكاسب فاحشة من أزمة طارئة، مثلما حققوا مكاسب ظالمة على حساب المزارعين فى سنوات الوفرة.
والحكاية تتلخص فى أن مصر ظلت طوال العشرين سنة الماضية تتقدم عاماً بعد آخر فى إنتاج أجود أنواع الزيتون، ويعود الفضل فى جودة هذا الإنتاج إلى عوامل مناخية إقليمية لا دخل لنا فيها، ثم إلى أساتذة البساتين والمزارعين الذين كان لهم الفضل الثانى فى استنباط أجود الأصناف واتباع أحدث الأساليب الزراعية.
وخلال العقدين الأخيرين شهدت مصر توسعاً شديداً فى زراعات الزيتون، وانهالت علينا طلبات التصدير من أكبر وأغنى شركات العالم، حتى إن دولاً رائدة وعملاقة فى إنتاج وتصدير الزيتون، مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرازيل، أصبحت، منذ عقدين كاملين، على رأس الدول المستوردة للزيتون المصرى، سواء كان زيتون مائدة أو زيتاً، وتشهد أسواق العالم كله أن هذه الدول تستخدم الزيت المصرى فائق الجودة فى تحسين منتجها منخفض الجودة، ثم تقوم بإعادة تصديره إلى كل أسواق العالم -وإلى مصر أيضاً- بخمسة أضعاف سعر استيراده من مصر!
والمدهش والمحزن أنه لا يوجد أحد فى مصر توقف عند هذه المفارقة: إذا كانت مصر هى الأعلى والأجود إنتاجاً، فلماذا تأتى فى المرتبة التاسعة عالمياً من حيث إيرادات التصدير، ولماذا تحتل دولة مثل تونس مرتبة أعلى فى الإيرادات رغم أن إنتاجها أقل من ربع إنتاج مصر؟!
والإجابة التى يعرفها كل المزارعين -وتجهلها الحكومة للأسف- أن حفنة رجال أعمال لا يزيد عددهم على مائة شخص هم الذين أهدروا فرصة مصر وشعبها فى تعظيم عائدات تصدير زيتون المائدة وزيت الزيتون، لأنهم أولاً يصدّرونه «خاماً» دون أى قيمة مضافة، بمعنى أنهم لا يكلفون أنفسهم غير ثمن البراميل والملح فى حالة زيتون المائدة، وتعبئة الزيت فى تنكات ضخمة جاهزة للتصدير، وفى الخارج تتم تعبئة الزيتون والزيت فى عبوات صغيرة للاستهلاك الأسرى أو عبوات للمطاعم، ومن المؤسف أن دولة مثل إسبانيا تعيد تصدير الإنتاج المصرى باسمها بعد معاملات القيمة المضافة، وتحقق أرباحاً طائلة تضيع على الصناعة المصرية. ويعرف كل المزارعين ثانياً أن أفراد نخبة التصدير يتنافسون فيما بينهم على تخفيض الأسعار لـ«شقط» أكبر كمية من طلبات التصدير، ثم يخصمون الخسائر من سعر شراء المحصول من المزارعين، وبعد كل هذا التخريب يسارعون إلى صندوق دعم الصادرات للاستيلاء على الموازنة المخصصة لدعم صادرات الزيتون!
وعندما قررت الدولة تخفيض قيمة الجنيه فى نوفمبر 2016، ارتكب معظم هؤلاء المصدِّرين جريمة وطنية بشعة، حيث تحوَّل عدد كبير منهم إلى مجرد سماسرة للخواجات، بعد أن أفهموهم أن الدولار الذى كان يساوى 8 جنيهات أصبح سعره 18 جنيهاً، فانهار سعر تصدير طن زيتون المائدة من 1250 دولاراً إلى أقل من ألف دولار، وفى الوقت الذى توحشت فيه أسعار المدخلات وارتفع بعضها فى ظرف شهر واحد إلى أكثر من 400٪، راح بعض كبار المصدّرين يسرقون شقاء المزارعين ويحولونه إلى أرصدة دولارية فى حساباتهم.. وظل ذلك هو حال زراعة وصناعة الزيتون فى مصر حتى وقعت كارثة لم تكن فى الحسبان.
كانت مصر قد حققت طفرة غير مسبوقة فى الإنتاج عام 2019، وخلال ذلك العام أشاعت عصابة التصدير أن تفشى فيروس كورونا أوقف حركة الصادرات بين دول العالم بدءاً من شهر ديسمبر 2019، وهو موعد بدء التصدير السنوى، وتوقف المصدّرون عن سداد الدفعات المتأخرة للمزارعين والوسطاء، وعدد غير قليل منهم «أكلوا» المتأخرات على أصحابها بحجة أنهم لم يصدّروا الإنتاج.
ثم جاء موسم 2020 ولم تطرح فيه الأشجار إلا نصف إنتاجها السابق، فاشترت عصابة التصدير الإنتاج بأقل من أسعار تكلفته فى المزارع بحجة استمرار توقف حركة التصدير.
وجاء موسم 2021 بما لم يخطر على بال أحد، فقد انهار الإنتاج تماماً بسبب تغير المناخ، انهار فى مصر وفى غيرها من دول حوض المتوسط، وأصبحت مصانع زيتون المائدة وزيت الزيتون فى العالم كله فى أشد الاحتياج إلى أى كميات من الزيتون الخام، وهنا تفتق ذهن عصابة المصدّرين عن حل كارثى، راحوا يضغطون على الدولة بكل السبل لتطبيقه، حتى يواصلوا عملية النهب المنظم لشقاء وعرق عشرات الآلاف من المزارعين، ولكنهم فى لهفتهم على استثمار الكارثة لصالحهم، اعترفوا، دفعة واحدة، بكل الجرائم التى ارتكبوها فى غفلة عن الدولة.
إن مصدِّرى الزيتون الذين ملأوا الدنيا نحيباً ولطماً بسبب انهيار الصادرات خلال موسمى 2019 و2020، عادوا ليطلبوا من الدولة السماح لهم باستيراد الزيتون الخام من الخارج حتى يتمكنوا من الوفاء بالعقود التى وقعوها مع مستوردين من 56 دولة حول العالم.. وحتى لا يضطروا إلى فصل العمال الذين يعملون لديهم فى حالة توقف مصانعهم بسبب ضعف الإنتاج المحلى من الزيتون.. وحتى لا تخسر مصر الأسواق العالمية التى «فتحناها خلال سنوات طويلة»، ثم يطالبون فى خطاب رسمى أرسله رئيس المجلس التصديرى لوزيرة التجارة والصناعة، نيابة عنهم، بما هو أكثر من ذلك: الإعفاء من الرسوم الجمركية، وجدولة مديونيات البنوك، وصرف دعم الصادرات كاملاً دون أى خصم للبنية الأساسية، وتوجيه التأمينات بدعم عمالة المصانع، وجدولة المستحقات الضريبية على الشركات!
ولكى توافق الوزيرة أو مجلس الوزراء على هذه الطلبات الكارثية، راح خطاب المهندس هانى برزى، رئيس المجلس التصديرى للصناعات الغذائية، يعدد إنجازات مصر فى مجال الزيتون -طبقاً لبيانات المجلس الدولى للزيتون- فإذا به يكشف، دون أن يدرى، عن الخديعة الكبرى التى ارتكبتها «نخبة التصدير»، ومن بين هذه الإنجازات أن «صادرات مصر من الزيتون المصنَّع وزيت الزيتون بلغت فى عام 2020 حوالى 114 مليون دولار، بنسبة نمو 32٪ مقارنة بصادرات عام 2019 التى بلغت 86 مليون دولار»! ألم يقولوا إنهم لم يصدِّروا شيئاً يُذكر خلال هذين العامين بسبب وباء كورونا؟!
ولحسن الحظ، فقد تم تداول صورة خطاب المهندس هانى برزى، حتى وصل إلى الخبير الدولى المرموق فى زراعة وصناعة الزيتون المهندس محمد الخولى، فعكف على تحليله فى دراسة وافية لم يترك فيها تحايلاً إلا وكشفه، ولا مغالطة إلا وفضحها، وفى حين يعتد العالم كله بمحمد الخولى وتنعته الأكاديميات والدوريات المتخصصة فى زراعة وصناعة وبحوث الزيتون بـ«قديس الزيتون»، فقد حرص القراصنة دائماً على استبعاده من أى نقاش رسمى للنهوض بمحصول فائق الأهمية وإنقاذه من براثن نخبة التصدير. ومن بين أهم ما كشفه «الخولى» هو أن قاعدة هرم هذه الزراعة تضم عشرات الآلاف من المزارعين والتجار الصغار وتضم مئات الآلاف من العمالة الدائمة والموسمية فى مقابل عدة آلاف يعملون بمصانع نخبة التصدير.. وليس من اللائق أن نضحى بمئات الآلاف ونشردهم باسم شعار زائف يتخذ من عمالة المصانع ستاراً لتحقيق أغراض وحشية. ويطالب الخولى ليس فقط بوقف دعم صادرات الزيتون، وإنما باسترداد كل الأموال التى استولت عليها هذه «النخبة»، لأن دعم الصادرات مخصص للمنتج النهائى الذى يتضمن قيمة مضافة، وليس لصادرات المواد الخام التى تمثل نزيفاً حاداً للاقتصاد القومى.
والخلاصة التى ينتهى إليها المهندس محمد الخولى -محرر ومؤلف أهم المراجع الدولية عن الزيتون- هى أن فتح الأبواب لاستيراد الزيتون الخام سيضع نهاية مأساوية لملحمة النجاح المصرى فى زراعة «الزيتون»، وسوف تستخدم «نخبة المصانع» ورقة الاستيراد فى مزيد من تدمير أسعار الإنتاج المصرى، وسوف يضاف هذا الضغط إلى ضغوط تغير المناخ وارتفاع أسعار المدخلات ليجد المزارع نفسه أمام خيار وحيد: أن يهجر أرضه ويتركها خراباً تنعق فيه غربان نخبة التصدير!.