حكايات «عاملات الحقول» بعد حادث الشرقية: «الشقا مكتوب علينا»

حكايات «عاملات الحقول» بعد حادث الشرقية: «الشقا مكتوب علينا»

الصورة شبه واحدة، فى معظم القرى المصرية طريق ترابى ضيق غير ممهد تسير عليه سيارات نصف نقل وتروسيكلات، والمخصصة لنقل الأنفار من السيدات يومياً لجنى المحاصيل الزراعية، فى العادة لا تستوعب جميع الأعداد والتى تصل إلى عشر سيدات، الأمر الذى يدفعهن إلى التكدس بصورة غير آمنة على الطريق الزراعى، تلك هى الحياة التى تعيشها «العاملات فى الحقول» وقت حصاد أى محصول، وفى الوقت الذى رفض فيه أهالى ضحايا مركز ديرب نجم بالشرقية، الحديث حول مصرع ذويهن فى أحد المصارف وهن 5 سيدات عاملات، كانت تظهر ملامح «الشقا والتعب» على وجوه سيدات المركز وبعض القرى المجاورة.

«المصرى اليوم» رصدت حكايات عاملات الحقول فى محاولة لوضع خط نهاية لهذا «الشقا» والبدء فى حياة عملية جديدة للريفيات قد تكون أفضل، بعيداً عن الحوادث المأساوية ولكن ظلت كلمتهن دائماً: «الأعمار بيد الله.. الشقا مكتوب علينا».

ما بين ضحكة مع رفيقاتها داخل «تروسيكل» أثناء رحلتها من قريتها الصغيرة «أبوالروس» التابعة لمركز أولاد صقر بمحافظة الشرقية إلى عملها، وشعورها بآلام من حمل شكائر ثقيلة معبأة بمحصول الفول السودانى، وفرحة الحصول على 60 جنيهاً أجرة يوميتها فى العمل لمدة 7 ساعات كاملة التى لا تسد جوع أطفالها الصغار، تخرج أم إبراهيم بعد صلاة الفجر متجهة إلى قطعة أرض زراعية يمتلكها أحد أهالى القرية للعمل فى جنى المحصول.

لم يكن الخيار بيد أم إبراهيم، السيدة الأربعينية، لترك أطفالها والبحث عن مهنة تستطيع من خلالها مساعدة زوجها، تجلس خلف أكوام من المحصول الأخضر لفصل الفول السودانى عن الزرع، ترتدى طاقية بالية فى محاولة منها لحماية رأسها من الشمس، وجلبابا اتسخ بطين الأرض وقدماها تشققتا بسبب السير حافية لساعات طويلة تصل إلى ثمانى ساعات كاملة تبدأ من السابعة صباحاً وتنتهى فى الثالثة والنصف عصراً.

لم يشغل حادث غرق 5 مزارعات صباح أمس داخل قرية «تل القاضى» التابعة لمركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية، بال أم إبراهيم كثيرا فلا توجد وسيلة للتنقل لهن إلى الأرض الزراعية سوى الجرار الزراعى، أو التروسيكل وذلك لجنى محصول القطن، لتقول:«اللى يخاف ما يشتغلش أو ينزل من بيته».

امتلاك بيت صغير من الطوب الأحمر حلم عطيات محمد بدلاً من الحجرة التى تسكنها مع أطفالها، والمغطى سقفها بألواح الخشب والتى لا تحميهم من تساقط الأمطار على رؤوسهم خلال شهور الشتاء، رغم بساطة حالها لا تتوقف عطيات عن الابتسامة طوال ساعات عملها فى الحقل، تحاول خلق حالة من البهجة وسط رفيقاتها للتخفيف عليهن، وغرق زميلاتها داخل الترعة لم يمنعها من النزول لاستكمال عملها قائلة «محدش بيموت ناقص عمر».

لم تتذمر فايزة، الأم الثلاثينية، من قيادة التروسكيل وتحميل أكوام قش الأرز من الغيط إلى مكان تربية المواشى بصورة يومية، ورغم أنها تواجه السخرية من بعض قائدى السيارات إلا أنها ترفض الجلوس فى منزلها وتفضل مساعدة زوجها طالما أنها تشتغل مهنة شريفة، على حد قولها.

وقالت: «الحياة بقت صعبة على الكل، واحنا ناس أجرية ملناش دخل ثابت، ومش هيشغلنا مين عاش ومين مات إزاى، والشغل مش عيب طالما أنا بشتغل شغلانة شريفة، وأنا لو وقفنا عن الشغل عشان خايفين مش هنعرف نصرف على ولادنا، وعشان كده اتعلمت سواقة التروسيكل من زوجى، وفى الوقت اللى ممكن يقابلنى ناس تسخر منى فى ناس تانية بتشجعنى، ومفيش فرق بين راجل وست، المهم إن الإنسان يكفى بيته وأولاده بالحلال».

منذ نعومة أظفارها اعتادت «دولت» الخروج من منزلها بعزبة «عبدالجواد» التابعة لمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، للعمل باليومية فى حصاد المحاصيل الزراعية، وطوال ستين عاما كاملة لم تشكُ من الانحناء لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، مقابل الحصول على 80 جنيهاً، لا تتألم من خشونة كفها بقدر ما تتألم من توقفها عن العمل فى أوقات عدم جنى المحاصيل، وقالت دولت: «من يوم ما ربى خلقنى وأنا شغالة فى جمع القطن، واتجوزت وخلفت وبقيت جدة ولسه بستنى حصاد محصول القطن عشان أجمعه من الغيطان، تعبت من الشغلانة بس أنا معرفش غيرها فهى مصدر رزقى الوحيد، وباشتغل عشان أجوز بناتى الخمسة، فأنا المسؤولة عنهم بعد تعب أبوهم ورقدته فى البيت».

فى طريقها اليومى إلى عملها فى جنى محصول القطن، تتقافز فى ذهن مهجة حسن، العشرات من تلك الأفكار التى تراودها يوميا، ما بين زواج ابنتها وكسوة أبنائها، ومصاريف بيت تنفق عليه بعد وفاة زوجها منذ ثلاثة أعوام جمعت فيها بين دور الأم والأب معاً.

وقالت: «أتمنى أن تنظر لنا الدولة بعناية فنحن نتعامل كمواطنين درجة تانية، ولا نملك بطاقة تموينية، أو معاش شهرى نتسند عليه، رغم إن حياتنا البسيطة يعرفها الجميع، ولا يستطيع أحد تحملها يوم واحد فقط».